نص الخطاب الذي ألقاه السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي الكوبي ورئيس مجلسي الدولة والوزراء، القائد العام فيدل كاسترو روس، في الجلسة الختامية للقاء الدولي الرابع لرجال الاقتصاد، المنعقدة في قصر المؤتمرات في 15 شباط/فبراير من العام 2002، "عام سجناء الإمبراطورية الأبطال".

(الطبعات الاختزالية – مجلس الدولة)

حضرات المدعوّين الكرام:

لقد أوكلتم إلي مهمة صعبة بالفعل. كان بودي أن أتمتع في هذه اللحظات بما عند كثيرين من الذين تكلموا هنا، بل وجميعهم تقريباً، من بلاغة وتضلّع.

حاولت على مدى أيام حياتي أن أعثر على جوهر الأشياء، وأن أسعى، اعتباراً من هذا الجوهر، إلى التكهن بما سيحدث أو يمكنه أن يحدث. في بعض الأحيان لا تحدث الأمور عندما يتمنى المرء حدوثها، أو أنها لا تحدث على وجه السرعة ثم تحدث لاحقاً؛ لا أعتقدني الوحيد الذي أخطأ في بعض التكهنات. فكل الناس تعرف بأن الثوار يتمنون دائماً أن تحدث الأشياء بسرعة، ولكن حدوثها يتأخر بعضاً آخر من الوقت.

ونحن أنفسنا حاولنا الشروع بثورتنا في عام 1953، واضطررنا لاحقاً للتسليم بأمر الانتظار خمس سنوات وخمسة أشهر وخمسة أيام، يبدو وكأنه أمر سحري، أليس كذلك؟

وقد حظيت بامتياز المشاركة في الجزء الأكبر من الجلسات العامة، الحقيقة أننا استمعنا هنا إلى أمور بالغة الأهمية. فقد شاركنا في الاجتماعات السنوية الأربعة لرجال الاقتصاد وهي بارزةٌ الفوارق بين الاجتماع الأول وهذا الاجتماع، وينبغي التساؤل عن سبب ذلك. لن أعطي الجواب، فيجب التساؤل، أو بالأحرى الاستيعاب بأن أحداث السنوات الأخيرة هي التي غيّرت عمليّاً حتى اللهجة المستخدمة في هذا الاجتماع.

إنه جليّ درس هذه السنوات الثلاث الأخيرة، وخاصة السنتين الأخيرتين، وعلى نحو أخص، درس الأشهر الستة الأخيرة، حيال أحداث كان واضح مجيئها وهي حاضرة اليوم.

في ذلك الاجتماع الأول المنعقد عام 1998 كانت نهاية التاريخ ما تزال في أوجّها، وما نشاهده اليوم، هو أمر يبدو أنه بعيد. ومرت أشهر، وأنصاف سنوات وسنوات من نمو الاقتصاد؛ ومعجزات في اليابان لم تعد عليه كذلك منذ أربع سنوات، رغم كثرة ما حُكي عن تلك المعجزة؛ معجزات في شرق آسيا بدا وكأنها ترسم مساراً بلا نظير؛ معجزات في اقتصاد جيراننا في الشمال، الذين أخذوا يسجلون أرقاماً قياسية في كل يوم يمر بدون أزمة، وكانوا يدوّنون ذلك في كل يوم، وذلك حتى نهايات عام 2000، حيث بدأت تظهر بعض المؤشرات على تقلص الإنتاج الصناعي. وأخذت تنشأ فور ذلك نظريات معروفة: أن مرور أشهر كثيرة متواصلة من تراجع الإنتاج الصناعي إنما هي مشكلة حقيقية بالنسبة للاقتصاد، بدأت تتحول إلى سقوط، إلى هبوط نشاط اقتصادي، إلى آخره.

بدأت فرص العمل في الولايات المتحدة تتقلص، وأخذ يحدث ما توقعه كثيرون كمحصّلة حتمية للطريقة التي نما بها ذلك الاقتصاد والتغيرات التي كان لها أن طرأت. كل شيء كان له أن تبدّل.

في اجتماعات كهذه تظهر نسبية الأحداث، والشخصيات التاريخية، وقراءات كل واحد من الأحداث. كان الحديث يجري حتى الآن عن مدى ظلم النظام الاقتصادي والمؤسسات المالية الدولية، العالمية منها والإقليمية، وهذه الأخيرة تعتمد على المؤسسات العالمية. وعندما نذكر بعض هذه المؤسسات في لحظة ما، إنما نحن نفعل ذلك بكل صدق بدون أي نية على تجريح الأشخاص أو الوفود التي ترافقنا، مساهمة منهم في إعطاء هذا الاجتماع الطابع الذي استجداه دائماً، وهو أن يكون منبراً لمناقشة أفكار ومواقف ووجهات نظر، فيجب علينا ألا نخاف من الإصغاء لأي وجهة نظر.

منذ انعقاد الاجتماع الأول كنت أعرف ما يضمره كثيرون من المشاركين تجاه ممثلي تلك المؤسسات. أولى تلك المؤسسات التي شاركت كان البنك العالمي، وقد شارك في الاجتماعات الأربعة؛ وفي هذا الاجتماع كانت هناك أمور جديدة، شخصيات بارزة جداً ما كان لهم أن يأتوا في تلك المناسبة، ما كان عندهم الكثير مما يقولون، وتمكنّا في هذه المناسبة من التمتع بحضور العديد منهم: حائزان على جائزة نوبل للاقتصاد وحائز على جائزة نوبل للسلام، مع أن هذا الأخير شرّفنا في مناسبات عدة بمشاركته في اجتماعات في بلدنا. بل وأنه ومن الولايات المتحدة، استطعنا أن نصغي عبر التلفزيون إلى من يقال بأنه سيحوز مستقبلاً على جائزة نوبل للسلام، وربما يكون ذلك؛ ولكن لا أدري إذا كان الذين يقررون هناك من سيحصل على الجوائز ينوون منح هذا الشرف، بما يحمله من موارد كبيره، للذين يعقدون العزم على الحديث بوضوح عن الحقائق التي يشاهدونها.

ما الذي كان بوسعه أن يقوله لنا في عام 1998 الأكاديمي المرموق والبروفيسور جوزيف ستيجليتز، الذي لم يكن حائزاً بعد على جائزة نوبل ولم تكن هذه الأزمة قد وقعت، بالكاد كانت حدثت أزمة جنوب شرق آسيا، التي كانت أولى الأزمات بعد الأزمة المكسيكية، التي من غير المعتاد ربطها بالأزمة التي بدأت في الشرق الأدنى عام 1998. واليوم هي وقائع تتالت واحدة بعد الأخرى.

وهنا، أثناء تمعني، لأنني لم أكن أفعل شيئاً آخر غير التمعن والتمعن، في الوقت الذي كان كان يتحدث فيه آخرون، تبعاً لترتيب البرنامج، جرى أولاً بحث مسائل اقتصادية، احتل الوضع الأرجنتيني بينها مكاناً بارزاً، وذلك بالذات –كما ذكر بيريز إيسكيفيل بعد اختتام جلسة بعد الظهر- لأن الأرجنتين كانت نموذج العولمة النيوليبرالية وهي اليوم نموذج فشل العولمة النيوليبرالية.

في محاولة لشرح الأسباب والحلول الممكنة، تم الحديث بإسهاب عن موضوع يتعلق بالاقتصاد والعولمة، وشغل هذا الموضوع ما يمكن القول بأنه 30 أو 40 بالمائة من وقتنا.

تم تناول مشكلات أخرى من النوع الاقتصادي على صلة ببرنامج الاجتماع. لم أتمكن من سماع ما قيل اليوم عما يتعلق بالاتفاق متعدد الأطراف للاستثمارات؛ ولكنه حدث معروف جداً. تمت الإشارة إليه كأحد الأدلة –وإذا لم تخنّي الذاكرة فإن البروفيسور بورون هو من ذكر ذلك- على أشياء يمكن صنعها، مثل الكشف في الوقت الملائم عن تلك المؤامرة، لأنه تم تنفيذها عبر تقنيات يفضّلها أصحاب العالم: التآمر.

قلت أصحاب العالم، نعم، لأن بعضاً من المؤسسات التي ذكرناها غير موجود بنفسه، وإنما هو موجود لوجود نظام هيمنة عالمي. لهذه المؤسسات مالكين معروفين جداً، سواء كان صندوق النقد الدولي أم البنك العالمي، مع أن وظائفهما كانت مختلفة.

أنا أعتقد أن البنك العالمي قد تم جرّه وأرغموه على التخلي عن الوظائف التي أوكلت إليه في نهاية الحرب، وهي تشجيع التنمية الاجتماعية، وكرّسوه بالكامل للقيام بعمليات إنقاذ. أعرف رأي أغلبية الذين يشاركون في هذه المؤسسة، ممن يعترضون على مثل هذه المهام، التي فُرضت وما تزال تُفرض عليه، مع أنه لا يوجد هناك حق النقض الذي يتمتع به جارنا الشمالي الجبار في صندوق النقد الدولي، وهي سلطة نقض يمارسها بشكل مطلق. وعلى غرار ما هو الحال في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لا يتم أبداً اتخاذ قرار لا يعترضون عليه، لأن حق النقض هذا قد مارسوه هناك ما لا يقل عن أربعة أو خمسة أضعاف ما مارسه باقي أعضاء مجلس الأمن مجتمعين.

وإذا ما كان هذا يحدث هناك، في مؤسسة لا تقل شأناً عن تمثيل العالم، هذا الجنين للسلطة الدولية، السلطة العالمية، التي لا يريدون ولا حتى تسليمها الأرصدة اللازمة لبقائها، ما الذي سيمتنعون عن فعله إزاء صندوق النقد الدولي، وأنا أرجو الذين شاركوا هنا في تمثيل عنه، أن يأخذوا أي إشارة أو ذكر للمؤسسة الشهيرة على محمل الانتقاد لنظام، لمفهوم، وليس للمهنيين العاملين هناك أو الذين يذهبون ويأتون، وحيث لا تكون وجهات النظر متطابقة تماماً أيضاً. بعضهم يؤيد بعض المفاهيم وبعض آخر يؤيد مفاهيم أخرى أقل تطرفاً يمينياً، أقل راديكالية، أقل همجية.

ليت أنه في المستقبل… حسناً، وبعيداً عن "ليت"، ستكون الاجتماعات المقبلة على أهمية أكبر كل واحد عن الآخر، لأنه ما دام خلال الستة أشهر اجتمع كل هذا القدر من الأنباء، فإنها تستحق تماماً التحليل العميق الأمور التي ستحدث خلال الأشهر الاثني عشرة المقبلة، حيث أنه حصلت متغيرات ذات طابع هام، سواء كان اقتصادياً أم سياسياً.

لن يكون هناك مفر من مناقشة الطريقة التي ستسير بها "منطقة التجارة الحرة الخاصة بالأمريكتين" (ALCA)، التي تمت مناقشتها هنا. إنه موضوع تم تداوله هنا قبل فترة وجيزة في اجتماع حول هذا الموضوع بالتحديد؛ وتم تداوله كذلك هنا في منتدى ساو باولو. فيما يتعلق ب‍ِ "منطقة التجارة الحرة الخاصة بالأمريكتين" حدد جميع المثقفين وكل الأشخاص الذين يفكرون مواقفهم، وبشكل عام، يعترضون في أغلبيتهم على "منطقة التجارة الحرة الخاصة بالأمريكتين".

ليس الخطير في "منطقة التجارة الحرة الخاصة بالأمريكتين" وجهات نظر المثقفين ورجال الاقتصاد والمفكّرين السياسيين؛ إنما الخطير فيها هو الندرة الكبيرة في المعلومات لدى جماهير شعوب قارّتنا، التي يوجد عندها نسب مرتفعة من الأمية، ويفتقد مئات الملايين من أبنائها لأهلية المعرفة النظرية لما تعنيه "منطقة التجارة الحرة الخاصة بالأمريكتين"، باستثناء التجارب الشخصية.

انظروا كيف غرق هذا الجزء من القارة بالديون. فهم لم يتشاوروا ولا حتى مع البرلمانات، ولا يتشاوروا في أحيان كثيرة حتى مع مجلس الوزراء؛ إنما هم وزراء الاقتصاد أو المال الذين كانوا يتخذون القرارات، بالاتفاق إلى حد ما مع أرفع السلطات السياسية. حتى أن كبرى الديون – وأعتقد أن أحداً ذكر ذلك هنا- بدأ جلبها في ظل أنظمة مستبدّة، حكومات دموية، لم تتشاور مع أحد. لعل تلك الديون وعواقبها قد ساهمت على نحو ما في حدوث ما يسمى الانفتاح الديمقراطي، وهو أمر أفضل مما كان سائداً بدون شك، لأنه اندثر معه جزء كبير من اختفاء الأشخاص، واندثر جزء كبير من أعمال القتل، وتقلص بشكل كبير القمع، الذي لم يندثر، ولا أقل من ذلك شأناً؛ ولكن تلك الديون الهائلة قامت على حساب الشعب. في أحيان كثيرة كانت البنوك أو الحكومات توحي للشعب بأنه أمر كبير الشأن أن يكون قد تم حل أزمة اقتصادية بفضل حصولها على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة عشرة آلاف مليون أو عشرين ألفاً أو ثلاثين ألفاً. لم يكن أحد يعرف عواقب ذلك أو بوسعه إدراكه.

في عام 1985، قبل 17 سنة، انعقدت اجتماعات هامة في كوبا على مدار السنة، اجتماعات طلابية أمريكية لاتينية وفلاحية أمريكية لاتينية، ونسائية أمريكية لاتينية، ولمنظمات عمالية، وفي النهاية اجتماع لشخصيات سياسية ومثقفين من كل نوع. لم يكن بالمستطاع عقد الاجتماعات هنا، وإنما انعقدت في مسرح "كارل ماركس"، حيث يتسع المكان لستة آلاف شخص، وكانت أياماً وأيام من التحليل والخطابات؛ وكان لا بد من الإصغاء إليها، نعم، 100، 120، 130 خطاباً، ولم يكن بالإمكان فعل شيء آخر.

ماذا كانت الغاية؟ خلق حالة من الوعي وبلورة آراء حول الديون. لا تتصوروا كمية المواد المحفوظة وبعض الرسائل. بل وأعتقد أنه بعد كل واحد من تلك الاجتماعات كنا نرسل لكل رؤساء الدول، مع بعض الاستثناءات المنطقية، المادة التي خضعت للبحث؛ ومن بينهم البابا، كرئيس، ورأينا لاحقاً أن مسألة الديون بالذات كانت إحدى رايات البابا ضمن طروحاته، التي عبر عنها في سِنودس روما، المتعلق بمكافحة الفقر والديون.

لم يكن الأفارقة يشعرون بالقلق الكبير بعد، لأن ديونهم لم تكن مرتفعة جداً، لم يكن قد تم منحهم من القروض ما تم منحه للأمريكيين اللاتينيين، ولذلك فلم يولوا المسألة أهمية كبيرة؛ إنهم يولونها اليوم أهمية أكبر. الأمريكيون اللاتينيون أخذوا الأمر بجدية أكبر.

بعض الأهداف لم يمكن تحقيقها طبعاً، لأنني أذكر بأنه في تلك الأيام كان يكفي أن يتمرد بلد ما، بلد واحد فقط من البلدان الثلاثة الكبيرة، ويقول: "لن أسدد"، ليجعل حتمياً إيجاد حل لأزمة الدين أو الحصول على ما لا يقل عن 10 سنوات، 20 سنة، من تأجيل الدفع.

بل وأن أحد ما شرح قبل دقائق قليلة بأن أمر عدم تسديد الديون الخارجية له سابقة تاريخية، وذلك في بدايات القرن الماضي. أعتقد أن بورون هو من تحدث عن هذا الموضوع.

أتعرفون أي هو هذا البلد الذي أمكنه القيام بخطوة حاسمة؟ الأرجنتين، التي كانت تعاني أسوأ العواقب؛ ولكن، ربما لم تدق بعد ساعة الإعلان عن جهود معينة لإقناع أحد البلدان الثلاثة الكبرى. الثلاثة الكبرى هي: البرازيل والمكسيك والأرجنتين.

أتوقف هنا، لأن الجهد المبذول كان سعياً لبلورة رأي، تعبئة الجماهير ومحاولة إقناع بعض الزعماء بأن يتخذوا قرارات من شأنها التمكين من تحقيق حل، على غرار ذلك الحل الذي كان ينبغي إيجاده منذ ذلك الوقت. لقد أُعطي الوقت للبلدان الغنية، وخاصة لكبار الدائنين في الشمال، الذين كانوا يتلاعبون آنذاك بنسبة الفائدة، وكانت المعاهدات بشكل عام تنطوي على ارتفاع نسبة الدين أيضاً عندما ترتفع نسبة الفائدة؛ لم تكن كما هي عليه في هذه اللحظة التي، ولجوءاً منهم بشكل يائس إلى هذه الإجراءات، قلصوها إلى 1.75 في تخفيضهم الثاني عشر لها، وقد خفضوا النسبة إلى هذا الحد من أجل محاربة هبوط النشاط الاقتصادي.

وإذا كانت ديون أمريكا اللاتينية تصل حينها إلى 300 ألف مليوناً، فإن هذه الديون بلغت اليوم، في أواسط العام الماضي، 2001، نحو 750 ألف، أي أنها تضاعفت أكثر من مرتين، ولا بد من إجراء حسابات أوضح لمعرفة ما ستصل إليه في عام 2002. قال أحد ما هنا بأنه يمكن للمكسيكيين أن يكونوا قد قلصوا ديونهم في العام الماضي؛ ولكنها في الأرجنتين وبلدان أخرى نمت، ولا أدري من الذي بإمكانه العثور على هذه المعلومة من أجل معرفة ما إذا كان الدين قد وصل إلى 800 ألف مليون أم لا، ولكن في ظروف مختلفة، حيث من شأنها أن تكون الآن في خضم أشد أزمة اقتصادية وأكثرها تهديداً بين الأزمات التي نشأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

لا ينبغي أن يراود الشك أحداً في ذلك، وهذا الشك لا يراودكم أنتم لأن هذا هو ما عبرتم عنه هنا.

يجب اليوم تسديد دين هو أكبر بكثير؛ فبالإضافة للديون الضخمة، تمت خصخصة الثروات الوطنية، الثروات الرئيسية، بل وأكثرها قدسية، مع بعض الاستثناءات. في السابق كانوا مدينين يملكون شيئاً ما، والآن هم مدينين، وتضاعفت ديونهم وتتواصل مضاعفةً، ولا يملكون شيئاً.

يجب أن يضاف لهذه الديون مئات الآلاف من ملايين الدولارات الآتية من الخصخصة، كانت في السابق نوعاً من الاحتياط وأصبحت اليوم مستنزفة. ولهذا فإن الوضع هو أخطر بكثير.

ويضاف إلى هذا الدين دين أفريقيا، ويضاف دين آسيا، درجة أنه يتجاوز المليوني مليوناً، مع أننا نحن الأمريكيين اللاتينيين أبطال أولمبيين في هذا الأمر، حيث أننا نشغل المكان الأول، ميدالية ذهبية؛ بلا ذهب، ولا أمل ذهبي. إن هذه المشكلة عالمية.

بالإضافة إلى ذلك لم يكن في عام 1985 يوجد منظمة تجارة عالمية، كان هناك شيئاً يدعى "غات". نعم، وكنا نتطلع نحن لعقد اجتماع لمنظمة "غات" أو منظمة "أونكتاد" هنا، وكنا سنستخدم قصر المؤتمرات هذا، بالإضافة لتوسّع في مساحته ليشمل مكاتب ضرورية، انتهى الأمر بهذا التوسّع لأن يصبح فندقاً، لأننا تنبهنا بأن الأمر لا يستحق العناء، ذلك أن الولايات المتحدة كانت تعترض بشدة. منظمة "غات"، التي تحوّلت إلى منظمة التجارة العالمية، هي واحدة أيضاً من أدوات النهب والاستغلال الكبرى، وهي بيد أصحاب العالم.

تمت الإشارة هنا في لحظة معينة إلى آخر اجتماع انعقد في قطر. لقد اختاروا بلداً صحراوياً، يصعب الوصول إليه في قارب أو عبر البر؛ وليس هذا بسبب المسافة، وإنما كذلك لأن تذكرة السفر إلى هناك باهظة الكلفة.

من واجبي القول، وفاءً للحقيقة –وهذا ما تم ذكره هنا أيضاً- بأن مواطنين أمريكيين وكنديين، من الذين يملكون إنترنيت، وهم مثقفين، ومن الطبقات الوسطى من الموطنين بشكل عام، هم الذين نظموا احتجاجات سياتل، عبر الاتصال فيما بينهم عن هذا الطريق، وهم الذين نظموا احتجاجات نيويورك، ونظموا احتجاجات كيبيك. على نحو لم يعد فيه لدى "مجموعة السبعة" وغيرها مكاناً يجتمعون فيه. كنت أفكّر أنه لعله في هذه المحطة الفضائية الجديدة يعدوا بعض الحجرات من أجل اجتماع "مجموعة السبعة"، فقد اعترفوا بأنه أصبح أمراً عسيراً جداً، فاختاروا جبلاً هناك في كندا من أجل عقد اجتماع "مجموعة السبعة" أو منظمة التجارة العالمية، جبل شاهق الارتفاع، ونائي، وصحراوي وبارد.

بدت دافوس في العام الماضي وكأنها ساحة خنادق يعود عهدها إلى الحرب العالمية الأولى من شأن كثيرين منكم أو بعضكم أن يكون قد شاهدها من معركة فيردون أو من مارني؛ والسويسريون الذين يبلغون ما يبلغون من الميل للسلم ومن الحيادية، أنزلوا جيشاً مدججاً بالقبعات المعدنية وبكل نوع من الأسلحة إلى ذلك المرتفع المخصص لممارسة الألعاب الشتوية وأمكن للمحتجّين أن يصلوا إليه. وبلغت الموعظة التي خرجوا بها درجة أنهم اختاروا نيويورك ولا أقل منها من أجل الاجتماع؛ والآن غيّروا لهجتهم قليلاً، استخدموا كلمات مخادعة ورائفة معينة، وهذا هو نهج، إنه أسلوب. ولكن، بما أن هذا الحال لم يعد يسري ولا حتى في سويسرا، فقد استغلوا الإجراءات الأمنية المتخذة بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر في تلك المدينة.

ربما يكون هذا على صلة ببعض الأحداث التي تسجَّل في هذه اللحظات. إذا أعطيتموني من وقتكم بضع دقائق، أعرّج إلى هذه النقطة لاحقاً، عندما نقترب من النهاية، التي آمل ألا تكون بعيدة جداً.

حتى الأماكن هي في أزمة عندهم. ربما يطلبون منّا يوماً أن نعيرهم هافانا من أجل عقد اجتماع من هذا النوع؛ ولكن الاحتمال الأكبر هو أن يعقدوه في قاعدة غوانتانامو البحرية (ضحك).

لقد سمعتكم تتحدثون، على سبيل المثال، عن قاعدة مانتو وقواعد أخرى هنا وهناك، وفكّرت بأنه عندنا نحن قاعدة أيضاً، منذ نحو قرن من الزمن تقريباً، فُرضت علينا في السنوات الأولى، بعد ذلك التدخل، عندما كانت إسبانيا منهكة ولم يعد بوسعها متابعة خوض حربها الاستعمارية؛ وهو تدخلُ جاء بعد عبارات مخادعة، على أثر بيان مشترك في كونغرس الولايات المتحدة، انتهى إلى حرب، احتلال، وإلى ما يسمى "تعديل بلات"، الذي يعطي الولايات المتحدة حكومة الولايات المتحدة حقاً بالتدخل عبر قواتها المسلحة في بلدنا عند حدوث أي اضطراب يلحق الأذى بمصالحها؛ وهو تعديل فرضوا إدخاله في دستور الجمهورية، مما تسبب بصدمة حقيقية لكثير من الوطنيين، الذين وضعوهم أمام خيار: إما تقبل أو لا تقبل، فيما يتعلق باستقلال البلاد. وكان ذلك في نهايات السنة الرابعة من الاحتلال العسكري، وكانت تجري مناقشة دستور الجمهورية. لا بد وأن ذلك كان أمراً مريعاً. بعضهم اعترض بصلابة مهما بلغ الثمن، ولكن آخرين اعتبروا بأن القبول به هو أمر محتم.

لم يكن قد بقي للجيش المحرر وجوداً، فقد كان قد تم نزع سلاحه؛ ولم يكن قد بقي وجوداً للحزب الثوري، الذي أسسه مارتيه من أجل القيام بالثورة، من أجل قيادة تلك الثورة.

أسس مارتيه حزباً من أجل تنظيم وقيادة الثورة والقيام بها قبلما أسس لينين حزبه الثوري في مينسك؛ كان الحزب الأول، ولم يكن ماركسياً لأنه لم يكن بوسعه أن يكون كذلك.

كان هذا مجتمعاً حديث التخلص من النظام العبودي، حيث لم يكن يوجد بروليتاريا، وقد عرف ذلك الرجل كيفية تناول أصعب المشكلات بعبقرية، في وجه الدعاية الإسبانية، وتلفظ ببعض عبارات ماركس، وإحداها رائعة جداً: "بما أنه اصطف إلى جانب الفقراء، فإنه يستحق الجلال". ولكن أي رؤيا كتبها في نهايات القرن التاسع عشر عن المحاولات الألكائية!*، وعندما أقول ألكائية أقصد (ALCA)، وليس منظمة "القاعدة" تلك، والفارق بين الواحدة والأخرى ليس بكبير (ضحك).

وما دمنا في الحديث، من واجبي القول أن الجريمة الغبية والهمجية المرتكبة في نيويورك أنزلت ضرراً هائلاً بكل العالم؛ أنزلت ضرراً ليس بشعب الولايات المتحدة واقتصادها فحسب، بل عجّلت من عملية الأزمة الاقتصادية العالمية، مع أن هذه الأزمة كانت قادمة بحدة؛ كما ضربت جميع التحركات التي تكلمنا عنها، من جانب مثقفين ورجال اقتصاد وأشخاص يقلقهم أمر العولمة، والذين كانوا يخوضون كفاحاً طالما أشرنا إليه؛ وكان لها أثراً شالاًّ داخل الولايات المتحدة، حيث أصبح ذلك أصعب بكثير حيال الاستياء والنقمة اللذين سادا تجاه المعترضين على العولمة، فقد صاروا عرضة حتى لخطر إعلانهم إرهابيين. لولا هذا العمل الإرهابي، ربما ما كان ليستطيع جماعة دافيس أن يجتمعوا في نيويورك –فقد اخترعوا ذلك لاحقاً، استغلالاً منهم للمناخ السائد-؛ وألحقت الأذى باجتماع بورت أليغري في ريو غراندي ديل سور، التي كان يُحتمل أن يحضره 100 ألف مشارك، ولم يصل عددهم إلا إلى 50 ألفاً أو 60 ألفاً حسب التقديرات.

انعقد هنا اجتماع ضد "منطقة التجارة الحرة الخاصة بالأمريكتين"، ومع أن أحد أكبر الوفود كان الوفد الأمريكي والكندي، فإن كثيرين منهم لم يستطيعوا المشاركة في ذلك الاجتماع، لأن الحوادث التي وقعت كانت حديثة العهد، وكانوا تحت وطأة الصدمة.

منتدى ساو باولو أيضاً. انعقد منتدى ساو باولو هذه المرة في هافانا، على غرار انعقاده في بورت أليغري، فلم تثبط عزيمة الذي سيشاركون، وعقدوا الاجتماعين، وهذا أمر هام جداً. ولكن العمل الإرهابي ضرب هذه النضالات وأفسح في المجال أمام نشوء حجج لاتباع سياسات جديدة ونظريات تدخلية على نحو صريح.

بل وأنه جرت هنا محاولة الإشارة إلى ما يجري بواسطة عبارة واحدة، وذلك حين استُخدمت عبارة "دكتاتورية عسكرية عالمية".

يمكن الحديث أيضاً عن "الثامن عشر من بروماري للويس بونابارت"، وهذا موجّه للذين قرأوا هذا العمل من أعمال ماركس أو قرأوا "الحروب الأهلية في فرنسا"، الذي تضحي قراءته إلزامية بالنسبة لأولئك هواة دراسة الماركسية والذين يتلقون العلوم في مدارس معينة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بأعمال من هذا النوع، لأن قراءة "الثامن عشر من بروماري" هي أسهل بكثير من قراءة "رأس المال"؛ فهذا يتضمن محتوى اقتصادياً بحت، والعمل الآخر هو عبارة عن طريقة مبدعة، طريقة أنيقة ولطيفة في وصف أحداث تاريخية. أي أنه لم يكن عند ماركس شيئاً من الدوغمائية، وعندما تناول هذه المواضيع إنما فعل ذلك بقدرة هائلة على الإقناع.

إن هذه هي مشكلات ذات طابع اقتصادي، إضافة للتي ذكرتها عن الديون والتي أفسحت في المجال أمام الاجتهادات التي أجريناها حول الحركات الاجتماعية والسياسية المتضررة من همجية وغباء مثل هذه الأعمال التي أدنّاها نحن بصراحة وصدق، لأننا أمعنّا منذ زمن طويل حول هذه الأساليب، ولأننا خضنا حرباً استغرقت 25 شهراً، وتم خوضها بنجاح، ولا أتذكر بعد حالة واحدة لمقتل مدني بريء واحد خلال المعارك العديدة التي شاركت فيها قواتنا في الطابور رقم واحد.

كان نضالنا نضالاً تحررياً عاملنا خلاله الأسرى باحترام كبير، فلم يتواجدوا ولا حتى 48 ساعة… كحد أقصى 72 ساعة؛ كنا نسلمهم للصليب الأحمر الدولي، وذلك حين بدأنا بإلقاء القبض عليهم بأعداد كبيرة. كنا نعطي أدويتنا للجرحى ونطلق سراح الأسرى على الفور. لقد كانوا مزوّدينا بالأسلحة، فكان من واجبنا طبعاً أن نحسن معاملتهم، وهذا أمر أساسي (ضحك).

كانوا في البداية يقاتلون ويقامون حتى آخر طلقة، وكانوا يكلفوننا أرواحاً، وذلك لأنهم كانوا يعتقدون بأننا سنقتلهم، فقد تم زرع ذلك في رؤوسهم، والممارسة هي ما أخذ يقنعهم جميعاً بعكس ذلك؛ وفيما بعد، عندما كانت معركتهم تبدو خاسرة، كان من الأسهل عليهم حينها أن يوقفوا القتال. وكان هناك من استسلموا ثلاث مرات.

نحن لم يزودنا أحد من الخارج لا بالأموال ولا بالأسلحة ولا غيرهما. لم نكن نعرف ولا حتى موظفاً روسياً واحداً. لم يأتنا أحد بالأفكار؛ إنما بلورنا نحن أفكارنا، وتكتيكاتنا، ورغم ما قاله إنجلز مرة، بأنه منذ أن قامت الجادات الكبيرة في باريس وبنادق مرتدة الشحنة أصبحت الثورات مستحيلة، وطالما أمعنت في ذلك وكنت على غير اتفاق، لأنه لو كنت متفقاً مع وجهة النظر تلك لما كان لي أن أحاول أن أصنع ثورة. ولم تكن الشروط الموضوعية هنا بالغة الملاءمة، كانت مناسبة طبعاً، للدرجة التي أمكن للأحداث أن تثبتها، والظروف الذاتية لم تكن أفضل بكثير، للحقيقة. كان ما يزال هناك الكثير من الدوغمائية في الفكر الثوري، وكنا على نحو كبير من التأثر بفكر جيراننا في الشمال، فقد كنا نعيش عملياً في أوج الحرب الباردة.

كانت مفاهيمنا مرنة، أمام نوع من النضال أو نوع آخر، فلم نكن نستبعد شيئاً: التوفيق بين السلاح وبين التحرك الجماهيري، أو احتلال قلعة من أجل تسليح الشعب، تحت شعار إضراب عام ثوري؛ ولكن في الواقع أننا أخذنا نعثر على صيغة الكيفية التي نستولي بها على السلطة اعتباراً من مفاهيم، نعم، هي ماركسية-لينينية.

ندين بماركس بفكرة واضحة عمّا هو المجتمع. فقبل أن نكون على اتصال بتلك الأفكار كان المجتمع يبدو لنا كغابة هائلة وكنّا كشخص ضائع في تلك الغابة. وندين للينين بنظريات الدولة: كلاهما أظهرا لنا المجتمع الطبقي، تاريخ الاستغلال، المادية التاريخية، بدون أن تكون هذه بالطبع عقائد قابلة للتطبيق بشكل رياضي. إذا أردت تطبيقها على مرحلة وفي وقت لاحق على مرحلة أخرى، يكون هناك أثر أكبر، برأيي، للوقائع التي كانت تحدث عندما بلور النظرية؛ ولكن الكثير من مبادئها هو مبادئ كونية، في التاريخ القصير للبشرية، لأن ما نعرفه عن البشرية، ما يمكن تسميته تاريخ وليس أسطورة، هو القليل جداً. أعتقد أن عمر أقدمها 3500 سنة على أبعد تقدير. وما هي 3500 سنة في تاريخ جنسنا؟ هذا الجنس الذي طور حضارة وعلاقة أتّفقُ فيها كلياً مع فكرة ماركس تلك القائلة بأنه مع اندثار النظام الرأسمالي تتكلل مرحلة ما قبل تاريخ البشرية. ولا أنسى أننا حتى لم ندخل بعد في التاريخ، وعندما يأخذ بعض الحمقاء بالقول بأنها نهاية التاريخ، خلطاً منهم بين الأحداث وبين المفاهيم، إنما هم لا يتنبهون إلى أننا آخذين بالاقتراب من نهاية مرحلة ما قبل التاريخ.

حسناً، إلى جانب مرحلة ما قبل التاريخ تأتي أيضاً الهمجية وتأتي أشكال من النهب هي أكثر وحشية يوماً بعد يوم، وأشكال لإفساد الجماهير هي أكثر ذكاء وغدراً. يشعر المرء أحياناً بالحسد للمرحلة القبلية أو للمجموعات الأولى التي كانت تعيش بأشكال بدائية من المجتمع، لأن أبناؤها كانوا يتمتعون بحرية تفكير أكبر، لم يكن أحد يفكر عنهم، ولا حتى رقيّ القبيلة، أو ذلك الذي كان يتقدم الطقوس (ضحك). اليوم يجري عملياً منع الجماهير من التفكير، فخلافاً لذلك لما كانت تُشرب الكوكا كولا في أماكن من العالم لم يُسمع فيها من قبل بالكوكا كولا وكان فيها مرطّبات ألذ منها بكثير، أو لما كانت تؤكل ال‍ "ماك دونالد" الشهيرة التي لا يعرف أحد من أي لحوم يصنعونها، لأن هذه اللحوم تتبدّل حسب المكان، ولعل هناك من يضع حتى لحم القطط أو لحم آخر (ضحك). نعم، نعم، جميعها اعتداءات على العادات، على الثقافات، على الهوية، على الحضارة.

لا يعلم أحد كم من أمر جاءت به هذه العولمة النيوليبرالية، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي والثقافي والأخلاقي، وإنما على جميع الأصعدة، منع التفكير. لا يزعج أحد نفسه بالتفكير: إنها موضة كذا، إذا كانت التنورة طويلة أم قصيرة، وإذا كان الصابون كذا، أو المرطّب هذا أو ذاك، أو الويسكي من النوع كذا. لم يعد أحد تقريباً يفكّر، إنما يقرأ ذلك في الصحف، في المجلات، أو يتعلمه من الدعايات التجارية التلفزيونية أو من الأفلام السينمائية. إنها حقائق.

حول هذا الأمر الذي تناولته، يحضرني المفهوم بأننا آخذين بالوصول إلى مرحلة حاسمة، وعندما تمت الإشارة هنا إلى جملة واسعة من الأمور، لفت انتباهي أن أحداً لم يشر إلى مسألة بالغة من الظلم المثير للاشمئزاز كالتبادل غير المتساوي. لم تعد هذه الكلمة تُذكر، لقد نسينا بأنه إذا ما كانت شاحنة أو جراراً يعادل في عام 1949 عدد كذا من أطنان البن –حسناً، من البن طنين أو ثلاثة- أو عدد كذا من أطنان السكر، أو من أي من المنتجات الأساسية لبلداننا، إنما ينبغي اليوم تقديم عدد أكبر يوماً بعد يوم من هذه السلع، التي تتدنى قدرتها الشرائية في كل مرة لأنه ليس عملاتنا فحسب ما يفقد قيمته، بل وتفقد منتجاتنا أيضاً قيمتها.

أي كان يعرف هذا، وقد قيل ذلك، وكُتب، وهو أحد أشكال السلب. هناك أشكال جديدة للسلب على الدوام، ولولا ذلك، لما كان هناك كل هذا القدر من الجوع ومن الكوارث، ومن الفقر، ومن البؤس. لكل هذه الأرقام التي ذُكرت هنا سبباً واضحاً، وجود نظام سلب، وعندما كان المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي موجودين –رغم كل الانتقادات المحقة التي يمكن توجيهها إليهما- كانوا يخافون على الأقل. فنشوء ثورة عمالية في عام 1917 جعل الشركات الكبرى، الشركات الاحتكارية الكبرى، والحكومات على قدر ولو قليل من الحذر: مزيداً من احترام النقابات، مزيداً من احترام الطبقة العاملة، بل وأنها نشأت المعونات وغيرها من التنازلات الكثيرة التي أخذ يتم إلغاؤها شيئاً فشيئاً في الآونة الأخيرة.

بالكاد مرت عشر سنوات على اندثار الاتحاد السوفييتي، وبما أنه أصبحت هناك قوة عظمى مهيمنة واحدة، لا أحد يعبأ لما يمكن حدوثه أو للمظالم الاجتماعية.

إذا ما راجعت قائمة العمال الأعضاء في نقابات، ستجد بأن عددهم قد تقلص بنسبة 15 بالمائة، 10 بالمائة، 7 بالمائة، لقد أجهزوا على الحركة العمالية، أجهزوا عملياً على أحزاب كثيرة، أو حوّلوا مسارها، وقللوا أكثر من قدرة المجتمعات على الدفاع عن نفسها؛ وقد أضحى احتكار وسائل الاتصال الجماهيري أكبر، حيث أصبحت هذه الوسائل تشمل ليس الساحة المحلية فحسب، وإنما جميع بقاع الأرض، وبوسعها أن تبث بعدة لغات، بل وبلهجات محلية، ويمكن لبرنامج واحد أن يُسمع من قبل أقلية معينة في بلد ما وبلغة أخرى من قبل أقليات في بلدان أخرى، داخل الولايات المتحدة وخارجها، من خلال التلفزيون عبر الكابل، عبر القمر الصناعي، إلى آخره، إلى آخره، إنه طوفان. من الخاطئ الحديث عن طوفان كوني، ففي أقصى الأحوال يمكن الحديث عن طوفانين: طوفان الإنجيل وهذا الطوفان الكوني من المعلومات، الذي يتحول في كثير من الأحيان إلى طوفان من الأكاذيب، طوفان كوني من الخداع؛ وأنا أقول في كثير من الأحيان، وليس دائماً، بأنه من المحق الإتيان على ذكر استثناءات.

نتذكر نحن بأنها كثيرة الشبكات التلفزيونية المحلية والدولية التي غطّت وقائع معركتنا من أجل إعادة الطفل الذي كان مخطوفاً على نحو ظالم وبلا رحمة. وثمة مهرجانات تم بثها، لا تعود إلى تلك الأيام فقط، وإنما إلى معركة أفكارنا وكفاحنا اللاحق ضد "قانون الضبط الخاص بالكوبيين" المجرم –لن أشرحه-، وقانون هيلمز-بيرتون، وقانون توريسيللي، والحصار، والحرب الاقتصادية، وتعديلات من كل نوع، وهي تعديلات قانونية تم وضعها من أجل تشديد الحصار، وخاصة عندما اندثر المعسكر الاشتراكي وفقدنا مصادر تزويدنا بسلع معينة، وفقدنا المحروقات، وفقدنا سوقنا. فقدنا كل شيء تقريباً، بين ليلة وضحاها. ينبغي التساؤل عن الكيفية التي قاوم بها هذا الشعب. ولن أحاول أيضاً شرح ذلك؛ أقول فقط بأنه كان قادراً على مقاومة حصاراً مزدوجاً.

أكتفي بالقول بأن ما كان حاسماً في ذلك هو الوعي والأفكار والإنجاز الذي حققته الثورة خلال 30 سنة، بالرغم من افتقادنا للخبرة، وبالرغم من الحصار، الذي يسمونه برأفة حظراً، وهو ما يشبه تسمية أعمال القتل رياضة. لا، ليس بحظر، فليس هناك من حق: لا بشراء ولا ابتياع شيء على الإطلاق من الولايات المتحدة أو من صناعاتها في الخارج.

إذا كنت أذكر هذه الأمور فلأنه يمكنها أن تساعد على إعطاء إجابة لبعض التساؤلات التي ما لبث أن تم عكسها هنا.

لا يعرف أحد ما الذي يمكن فعله بحد أدنى من الموارد. لا يعرف أحد ما يمكن فعله بحد أدنى من الوعي. لا يعرف أحد ما يمكن فعله بحد أدنى من العمل لصالح الشعب. لا يعرف أحد ما يمكن فعله بحد أدنى من التغيير. وأقول حداً أدنى لأنه لو كنّا قبل 10 سنوات، 20 سنة، نتمتع بالخبرة التي نتمتع بها اليوم، لما كنّا نشعر بالخجل لقلّة ما فعلناه خلال 43 سنة.

آمل أن تُفهم الفكرة، بأنه يمكن صنع ما يزيد بكثير عما تصورناه نحن أنفسنا.

ولهذا نحن نصرّ بقوة تأكيد على مسألة الأفكار والوعي وأهميتها.

ما زال هناك عنصر ثالث. عساني أذكره بعد قليل في الدقائق التي طلبتها منكم كقرض مع تفكيري بأن هناك كوكتيلاً لذيذاً بانتظاركم قبل حلول الثانية عشرة ليلاً (ضحك).

لم أشاهد إلا واحداً فقط غمض جفنه، في الصف الثالث، وهو الهندوري، ولكن هذا حدث لي أنا أيضاً (ضحك وتصفيق). حسناً، لقد استيقظ. لقد ذكرت لكم بأنني ألاحظ المستمعين؛ وتأتي لحظة أتنبّه فيها إلى أن لهم الحق بالنوم؛ لكن، ليس بعد، أرجو أن أنتهي قبل ذلك.

على سبيل العرض، تم الحديث عن جميع المؤسسات، من نوع أو من آخر؛ وعن جميع المظالم التي ترتكب؛ وكما ذكرت، تمت الإشارة إلى اتفاقات التجارة الحرة، وقيل هنا ببلاغة كبيرة بأن جميع البلدان المتقدمة والثرية جداً الحالية قد تطورت بدون "مناطق تجارة حرة خاصة بالأمريكتين" وبدون منظمات تجارة عالمية، على أساس حماية صناعتها وعدم جعلها تتنافس مع أولئك الذين يملكون كل التكنولوجيا المبلورة اعتباراً من تمتعهم بجامعات، ومراكز بحث، وباحثين خاصّين بهم؛ ولكن جزءا كبيراً منها تطور من جرّاء توظيف أفضل مواهب بلدان العالم الثالث التي لم يكن يتوفر لديها أدنى فرصة للتمتع بمختبر في حين أن البلدان المتقدمة، خلافاً لذلك، وفّرت لهم آفاق، ليس اقتصادية فحسب، فالإنسان لا يتحرك لدوافع اقتصادية حصراً، وإنما يتحرك لأن عنده ميل وموهبة أو لأن عنده رغبة ويريد أن يجري أبحاثاً، ويريد العمل ويريد الإبداع. ما هي الإمكانيات التي كانت متاحة أمامهم؟

من المعروف أن أكثر من نصف مليون أمريكي لاتيني، مهنيين، خريجي جامعات أمريكيين لاتينيين، قد هاجروا إلى البلدان الصناعية، وبشكل رئيسي إلى الولايات المتحدة. حتى ما قبل فترة وجيزة، قبل عام من الآن، كانوا يتحدثون قبل أشهر قليلة من الأزمة عن التعاقد مع 200 ألف أمريكي لاتيني للعمل في الصناعة ذات التكنولوجيا المتقدمة. يتعلق الأمر بخريجين جامعيين ومهندسين، إلى آخره، إلى آخره.

والآن، عبر "منطقة تجارة حرة خاصة بالأمريكتين" و"منظمة تجارة عالمية" يريدون جعلننا نتنافس مع تكنولوجياتهم وصناعاتهم المتقدمة، المؤتمتة، إلى آخره؛ على الآخرين أن يعملوا في جناية الفواكه، يريدون العودة إلى ذلك العصر الذي يقولون بأن الإنسان كان فيه جانياً للفاكهة. هذا ما يريدون فعله بنا نحن الأمريكيين اللاتينيين عبر "منطقة تجارتهم الحرة الخاصة بالأمريكتين": إنتاج مانغا وبعض الخضر التي يمكن لكلفة إنتاجها أن تزيد قليلاً إذا ما تمت في كاليفورنيا وغيرها من الولايات، لأن الراتب هناك هو خمسة عشر ضعف الراتب الذي يدفعونه في بلداننا. ورغم كل هذا، ويعرف ذلك المكسيكيون جيداً جداً، عندما يتوجه عمال مصانع المناطق الحرة القائمة في شمال البلاد إلى الولايات المتحدة لممارسة مهنتهم يقبضون أربعة عشر ضعف ما يقبضونه في المصانع المكسيكية، وهذا في الشمال، لأنه يمكن لهذا الأجر إذا قورن بالجنوب أن يصل ليس إلى 14 ضعفاً، وإنما أن يصل إلى ما بين ثلاثين وأربعين ضعفاً ما يتم دفعه في الولايات المتحدة مقابل ذات العمل الذي تدفع مقابله مصانع المناطق الحرة القريبة من الحدود مع بلدان أمريكا الوسطى.

لهذا نحن نرى في بعض الأحيان أن الصادرات تنمو بشكل هائل، ولا تخلّف وراءها أكثر من الأجر الضامر الذي تدفعه صناعاتٌ لا تسدد ولا حتى ضرائب، وحيث نسبة الموظفين المحليين لا تتجاوز بشكل عام الاثنين أو الثلاثة بالمائة؛ إنما هي تقوم بتصدير عرق العمّال، ولهذا فإن أناساً كثيرين يفقدون حياتهم في محاولتهم للهجرة.

يقضي سنوياً على حدود المكسيك مع الولايات المتحدة 400 أو 500 شخصاً –وهذا الرقم يرتفع، مع أن الإحصاءات غير واضحة-، أكثر من الذين ماتوا خلال 29 سنة من وجود سور برلين، بفارق أن الكلام عن ذلك السور كان يومياً بينما لا يُحكى عن هذا أبداً، باستثناء بعض، لنقُل، المتجاسرين، الذين نحكي عن هذه الأمور بين الحين والآخر.

كنت أتحدث مع أوسفالدو، وسألته: "ماذا ستطلقون على هذا الذي يسمى "منطقة تجارة حرة خاصة بالأمريكتين"؟ أي اسم؟ هل ستستخدمون وصفاً ما؟ لقد قلنا "ضم"، "أداة احتلال جديدة"، "استعمار". سوف يكرسوننا للقيام حصراً بأكثر الأعمال مشقة، وأسوأها أجراً.

عندما يجري الحديث عن العمالة، لا أعرف في أي تصنيف يضعون العمال والعاملات المنزليات. يمكن للخبراء أن يشرحوا لي إن كانوا ضمن تصنيف المستخدمين. أنتم تعرفون كيف هي هذه الأعمال: أسوأها.

لم أسمع ما شرحوه؛ ولكن لا حاجة بنا لإطالة الحديث، نقول بكل بساطة أن "منطقة التجارة الحرة الخاصة بالأمريكتين" هي ضم أمريكا اللاتينية إلى الولايات المتحدة.

ما الغريب في أن يتخذ بعضهم من الدولار مباشرة عملة لبلاده؟ أي أمل يبقى؟ أي عملة يمكنها أن تتنافس مع عملتهم؟ ما هي العملة التي تضمن عدم فقدانها لقيمتها؟، ولو كان عندهم في الاحتياط مئات الآلاف من الملايين –وهي ليست كثيرة- لمجرّد حماية عملات لا يستطيع أحد حمايتها، وهي معرضة دائماً لانخفاض القيمة.

ما الغريب في أن يسحب كل الناس، وخاصة جميع الذين يسرقون الكثير، بل وأولئك الذين يجمعون القليل من المال، لأنهم مهنيين أو لأنهم من صغار الصناعيين، أموالهم؟ لأنها الطريقة الوحيدة لجعل مالهم في مأمن. إن دفع 40 بالمائة من القائدة، 50 بالمائة، من أجل منع بعض الأشخاص، معروفي الأسماء، من القيام بضربة مضاربة، يلحق الشلل بالاقتصاد ولا يتجنب هروب الأموال.

هناك حالات –وأنتم تعرفون ذلك جيداً- جمع أصحابها كمية أكس (X) من المال –وأقول "أكس" لكي لا أذكر أسماء بلدان، فمن الثقيل دائماً ذكرها أو جعلها واضحة بفعل المعطيات المذكورة- عبر الخصخصة، من أجل الحصول على أرصدة اختفى أثرها خلال خمسة أسابيع. وهذه هي إحدى قواعد اللعبة.

لا يعرف أحد أين هي أموال بلادنا: ولا يعرف أين هي الأموال الأرجنتينية، ولا أين هي الأموال الفنزويلية، الأربعمائة ألف مليون دولار التي بُذِّرت، وسُرق جزء كبير منها، منذ الفترة التي انتصرت فيها الثورة الكوبية تقريباً، والتي جاءت بعد أشهر قليلة من النصر… أو من سقوط الدكتاتورية العسكرية في فنزويلا، في شباط/فبراير 1958؛ وثورتنا انتصرت في كانون الثاني/يناير 1959.

يعرف كل العالم أي نهب هائل تعرض له ذلك البلد، وأي إسراف تم فيه. حتى الثلج الذي كان يتم به تبريد الويسكي هناك كان يأتي في أكياس بلاستيكية صغيرة تحتوي على ماء من اسكتلندا، وذلك من أجل عدم ارتكاب حماقة خلط مياه فنزويلية بويسكي عولج بمياه اسكتلندية. يوصف هذا بأنه نموذج للديمقراطية. وإذا ما سألت: كم طفلاً ينهون دراسة الصف السادس؟ يؤكدون لك بأنه أقل من 50 بالمائة. وكم عدد الذين يتلقون علوم المرحلة الإعدادية؟ أقل من ذلك بعد. هل انتهت الأمية؟ لا، إنها موجودة هناك. يتكلمون عن 15 بالمائة، 20 بالمائة، ولا يحسبون الشبه أميين أو الأميين الوظيفيين، وهو تصنيف آخر يجب أخذه بعين الاعتبار. إنهم يعدّون بالملايين.

أي اهتمام يمكن أن تبديه قطاعات معينة، أو أي اهتمام يمكن أن يبديه الرجعيون والأوليغارشيون في تعليم الشعب القراءة والكتابة؟ إنهم يخشون معرفة الشعب للقراءة والكتابة، وهذا ما يفسّر الأرقام الهائلة، مع أنها لا تقبل المقارنة طبعاً مع الأرقام الموجودة في أفريقيا. هناك بلدان أفريقية يوجد فيها ما نسبته 87 بالمائة من الأميين، وفي أفضل الأحوال 15 بالمائة أو 16 بالمائة من التغطية المدرسية. ينبغي ألا يُحكى عن الأمية فقط، وإنما كذلك عن الذين يتمتعون بتغطية مدرسية، وعن الذين يصلون إلى الصف السادس لنرى إذا كان بالإمكان الحديث لاحقاً عن التطور الصناعي، وعن استخدام الإنترنيت وتأهل الباحثين والعلماء. عمّن سيضحكون بهذه الوقائع؟ إنها لا تصدّق الطريقة التي يضحكون بها على الشعوب، ليقولون لاحقاً بأنها تعيش في أنظمة ديمقراطية.

النهب غير موجود ظاهرياً، وجميعكم تعرفون بأن الأمر يحتاج لجهاز كمبيوتر لحساب كل الأموال التي سرقوها من قارتنا منذ أن وجدت الثورة الكوبية؛ وعدد المفقودين منذ أن وجدت الثورة الكوبية، بلغ عددهم في غواتيمالا وحدها 100 ألف وعدد القتلى أكثر من 200 ألف؛ تصنيف "سجين" لم يكن موجوداً هناك، منذ أن غزوا ذلك البلد بحملة بحرية مرتزقة مشابهة لغزو خيرون [خليج الخنازير].

تصوروا ما الذي كان يمكنه انتظارنا نحن! ولكن في تلك اللحظة كان قد أصبح لدينا 400 ألف قطعة سلاح؛ ربما كنا تحولنا إلى فيتنام هذه القارة. إن عدم إعطائهم الوقت لإقامة قاعدة انطلاق لهم وهزمهم خلال أقل من 72 ساعة كان مسألة حياة أو موت. لقد استخفوا بالشعب، كالعادة. لم يكن يوجد لدينا بعد جيشاً منظماً، وفقاً للنظم التي تقوم عليها قوات مسلحة متطورة وحسنة التدريب.

ولكن كان قد تم أيضاً كسب الحرب الثورية، بأشخاص تلقوا تدريب نظري ليس إلاّ. لا أذكر حالة واحدة من بين الآلاف الذين قاتلوا –وليسوا بكثيرين- مع جيشنا الثائر، طوابيرنا الثورية، ممن شاركوا في المعارك بعد إطلاقهم عياراً واحداً فقط أثناء التدريب. كل ذلك كان على أساس مناهج هندسية، بدون عيارات، لأنه لم يكن بوسعنا التفريط بذخيرتنا القليلة على ذلك النحو.

تم تعلّم حرفة النضال بتكتيك ملائم ضد قوات شديدة المراس مدرّبة على يد الولايات المتحدة، جيدة التسلح، بطائرات على درجة كبيرة من الجودة، وبتنسيق جيد بين الذين في الجو والذين يتقدمون براً، وبدبابات حديثة، واتصالات جيدة. كان لديهم كل ما كنا نفتقده نحن، باستثناء الحق، باستثناء السياسة. كانوا هم يقومون بحرق منازل وقتل فلاحين وسرقة كل الناس. كانوا هم يقومون بعملنا السياسي؛ وهكذا فإنهم كانوا مزوّدينا بالأسلحة وأفضل معبَّئينا السياسيين.

في أحيان كثيرة يتم التفسير على وجه الإيجاز ويعتقد البعض بأننا كنا نحن على مرتفع نتحدث مع الفلاحين عن النظرية الماركسية وقانون الإصلاح الزراعي وعشرين قضية أخرى؛ ما كانوا يعرفونه هم جيداً هو أننا كنا نعاملهم باحترام كبير هم وعائلاتهم، وندفع لهم ثمن كل ما نشتريه، وبما أن المنطقة كانت محاصرة، صادرنا قطعان كبيرة لنوزع اللحم عليهم ولإعطاء رؤوس الحيوانات للذين -وبالرغم من أعمال القصف- لم يبرحوا تلك المنطقة التي كنا نقوم بعملياتنا فيها، وتمكنّا من الانتصار في لحظة معينة بتكتيك معيّن وبطريقة محددة.

لن أشكك بما يريد أي سياسي أو أي منظمة أن يفعلا حول طريقة خلع أنظمة القمع والنهب، فهذا الشأن يعود إلى كل منهم. وإنما أنني أروي ببساطة ما فعلناه في لحظة معينة، وكيف أن البلاد قاومت في وقت لاحق، المضايقة والاعتداءات والإرهاب، في وجه عدو بالغ الجبروت. دققوا تماماً، الإرهاب، ولن أُسهب في ذلك، لأن من شأن الحديث عنه أن يطول.

آه!، ولكن توجّب محاصرة هذا البلد، لأن هذا البلد قام بإصلاح زراعي، وهو البلد الأمريكي اللاتيني الذي كان للشركات الأمريكية العابرة للحدود أكبر مساحة من الأراضي فيه. كانت هذه الشركات صاحبة معظم أفضل الأراضي في البلاد، وكانت قد اشترتها بأسعار بخسة واستغلتها على مدى أكثر من نصف قرن من الزمن، وبالإضافة لذلك كانت هي صاحبة خدماتنا العامة، صاحبة القطار وسكك الحديد، وصاحبة المناجم، وصاحبة أهم الصناعات. كان الإصلاح الزراعي أحد القوانين الأولى، وحُكم علينا منذ تلك اللحظة بالدمار، بنفس الطريقة التي حُكم فيها بذلك على غواتيمالا، منذ أن قاموا بإصلاح زراعي، فحُكم عليهم بالدمار.

كان الإصلاح هنا أكثر جذرية، لأن بعضاً من هذه المؤسسات كان يملك 200 ألف هكتار من الأراضي، وفي الإصلاح الزراعي الأول حدّدنا مساحة قصوى تبلغ 1340 هكتاراً، إذا كان يجري استغلالها بشكل جيد جداً، أو 402 هكتاراً إذا كان الأمر يتعلق بزراعة واسعة أو أراضي قاحلة. وشمل القانون تعويضات بسندات مالية جمهورية. هذا ما كان عليه الإصلاح الزراعي الأول. كان هذا يشكل عدم احترام بنظر أي شركة كبيرة وذات نفوذ تملك 200 ألف هكتار. من هنا بدأ كل شيء، بدأت حياكة كل باقي المخططات. قاومت البلاد وقاومت على مدار هذا الوقت وقامت بإنجازها، ثم جاءت أوقات أصعب، وقاومت البلاد وواصلت تطوير مشروعها.

يكفي الإشارة إلى أنه عندما بدأت ما نسميها الفترة الخاصة التحق بخدماتنا الطبية خلال عشر سنوات 30 ألف طبيب عائلة. اليوم، يتمتع المواطن في بلدنا بطبيب على مسافة مائة متر من المكان الذي يعيش فيه، أو 150 متراً أو 200 متر. وفي الريف تطول المسافة قليلاً، ولكن الطبيب على مقربة منه وينام هناك. إنها خدمات ولا يحلم أي بلد نامي بامتلاكها أبداً. الخدمات الطبية في الجزء الأكبر من العالم هي امتهان تجاري. ليس هذا ما يحدث في بلدنا، حيث يقدم أكثر من 60 ألف طبيب خدماتهم مجاناً، بتغطية للتكاليف من قبل الدولة، ولدينا في الخارج 2500 طبيب ضمن برامج صحية تكاملية نقوم بتطويرها في بلدان من العالم الثالث بدون أن نقبض مقابلها سنتاً واحداً.

بل وأننا عرضنا على منظمة الأمم المتحدة العدد الكافي من عمال الصحة من أجل إقامة هيكلية، أو بنية تحتية –سمّوها كما تشاؤون- لمكافحة الآيدز، هذا إذا كانت لديها الأرصدة الكافية. فاستجابة لطلب الأمم المتحدة، تم حتى الآن عرض ألف مليون لا أكثر، وأنا ذكرت عصر اليوم بأن الأمر يحتاج لما لا يقل عن 200 ألف مليون لمكافحة الآيدز، لأنه يزداد انتشاراً كرغوة الصابون ولم يتم خلال 19 سنة العثور على حقنة، لا أحد يهتم بالعثور على حقنة. الشركات الكبرى العابرة للحدود المصنّعة للأدوية هي مهتمة ليس بالوقاية وإنما بالعلاج، ولهذا تبلغ التكاليف الباهظة للخدمات الطبية ما تبلغه.

نحن نطعّم أطفالنا ضد 13 مرضاً مختلفاً ويتم إنتاج بعض هذه الحقن في بلدنا؛ ولكن يجب محاصرة هذا البلد.

لقد قلنا بأن من شأننا أن نعطي ما عند البلاد من قليل المال، أو ما يريدون، إذا ما وجدوا أن هناك حالة مفقود واحد، أو عملية قتل واحدة فوق اعتبار القانون. بل وأقول أكثر من ذلك، حالة تعذيب واحدة في هذا البلد. آه!، ولكن، لا بد من محاصرة هذا البلد، هذا البلد يجب أن يُدان. لهذا مازحت قليلاً حين أشار أحدهم إلى مسألة الإدانة في جنيف.

إن هذه هي ممارسة يخترعونها في كل سنة، نحن معتادين عليها بشكل مطلق. لقد ركبوا رأسهم ولا ينامون، يبدو كذباً أنه في بلد بالغ الجبروت لا ينام زعمائه؛ ويوم التصويت، بشكل عام، يكون هناك 25 أو 26 صوتاً ضد القرار في الساعة الثانية فجراً، وحسب ساعة التصويت، فإذا تم عصراً يكون في صالحهم، فيتمكنون من خلال الضغوط المريعة من تغيير كفة النتائج لصالحهم.

زعماء الإدارة الجديدة يستخدمون لهجة هي أكثر شدّة في حمّاها بعد، فهؤلاء لا يعملون على مستويات صغرى حين يتصلون برؤساء الدول ويهددونهم بطريقة صريحة ووقحة. فمن هو يا ترى الذي لا يحتاج لقرض، من لا يحتاج لسلفة من أحد البنوك أو من بعض المؤسسات الدولية.

لقد عرفنا أبطال حقيقيين، بلداناً فقيرة جداً تحدت كل المخاطر. ولهذا فإن الأغلبية التي يحصلون عليها هي طفيفة، صوت واحد أو صوتين على أبعد تقدير. في إحدى المناسبات أهملوا، ناموا على بساط من الغار وخسروا.

وهم، بعدما "دمقرطوا" وطوّروا الاقتصاد "المزدهر جداً" في البلدان الاشتراكية سابقاً، حيث لم يسرق أحد يوماً سنتاً واحداً، عبر إقامتهم للإدارات "الأكثر نزاهة" في العالم، تمكنوا من التمتع بحلفاء جدد لإدانة كوبا. لم تحصل هناك خصخصات، ما حصل هناك في الواقع هو مصادرة ثروات البلاد من قبل البيروقراطيين، وبفضل مبادئ تلك المؤسسة العتيدة، المسماة صندوق النقد الدولي، والانتقال الحر لرؤوس الأموال، قام المصادِرون بحمل كل ما أمكنهم حمله من المال، بدون أن يضيعوا دقيقة. ولكن، حسناً، هذه ديمقراطية؛ هذا تطور.

معطيات اجتماعية! لماذا؟ متى كان يهم أصحاب العالم في الواقع إن كان يموت 50 طفلاً بين كل ألف مولود حي في السنة أو ستين طفلاً قبل بلوغهم الخمس سنوات؟ ماذا يهم ألا يكون في أفريقيا بلداً واحداً يقل فيه عن مائة عدد الذين يموتون؟ ماذا يهم إن كان في بعض البلدان الأفريقية يموت أكثر من مئتين قبل بلوغهم الخمس سنوات بين كل ألف مولود حي؟ متى كان يهمهم ذلك؟ على العكس، فجزعاً منهم من نمو عدد السكان، لا يهمهم كثيراً أن يقضي الآيدز على شعوب برمتها، ويمكن لبعضها أن يختفي من الوجود.

تحدث بيريز إيسكيفيل عن حقوق الإنسان وذكر أرقاماً يحتاج الأمر لتذكرها.

هناك خطر اندثار مناطق كاملة من أفريقيا، وهناك بلدان كان من شأن أمل الحياة فيها أن يبلغ 61 سنة بدون الآيدز وهو يبلغ اليوم 38 سنة، وسرعان ما سيصبح 30 سنة. هذا المرض يصيب بشكل أساسي الشبان والرجال والنساء في سن العمل والإنجاب، فماذا سيحدث في بعض البلدان التي يموت فيها من المعلمين نتيجة مرض الآيدز أكثر من الذين يتخرجون كمعلّمين، وهي ليست البلدان الأكثر تضرراً؟ لأن الحال يصل بالأمور لأن تصبح هكذا، تبعث على الدهشة فعلاً، بصريح العبارة.

ما الذي يبعثه ذلك من الاهتمام عند الذين أوجدوا الاستعمار، الرأسمالية التي أحلّت العبودية في سنوات الإمبراطورية الرومانية في صميم الغرب؟ ما الذي لدينا اليوم؟ رأسمالية متطورة جداً لا تمت بصلة لتلك الرأسمالية، وسارت بالعالم إلى الظروف المريعة التي يعيشها اليوم.

يشار إلى آدم سميث، ويشار إلى كندي، وإلى الشيكاغو-بويز، وكل واحد منهم ينتمي إلى حقبة مختلفة، وإلى وضع مختلف.

هل يمكن الحديث عن حرية وسط فوارق هائلة؟ هل يمكن الحديث عن قدرة على الاختيار في وقت يملك فيه بعضهم آلاف الملايين ويعيش آخرون تحت جسور نيويورك؟ لأن هناك فقراً ليس في العالم الثالث فحسب، هناك فقراء كثيرون ومهمّشون كثيرون في البلدان الصناعية نفسها، وخاصة في البلد ذي أكبر جبروت والأكثر تقدماً صناعياً وثراءً بين الجميع، ألا وهو الولايات المتحدة.

أحد ما تكلّم عن عدد الفقراء، إن كانوا 800 مليوناً، أو كانوا ألف مليون. عدد الفقراء في الواقع هو 4000 مليون؛ فيجب إدراج فقراء البلدان الصناعية وبلدان العالم الثالث التي تتمتع بمستوى معين من التطور. لدى بعضها ناتجاً محلياً إجمالياً يبلغ ثلاثة أضعاف ما هو عليه في كوبا ومئات الآلاف من الأميين والأشخاص الذين لا يتلقون رعاية طبية، لأنها تمارس عقيدة النيوليبرالية، وتُدرج في إجمالي ناتجها المحلي إنتاج العديد من المناطق الحرة.

أصبح كل العالم اليوم يريد أن يكون منطقة حرة؛ لقد جعلوا البلدان تتنافس فيما بينها، وتلك الصناعات لا تدع غير الأجور المتدنية. الخدمات الطبية أصبحت تجارية، والتربية أصبحت في جزء كبير منها تجارية، وجميع النشاطات الترفيهية تجارية. بما أن الخدمات عندنا مجانية، فإن عمل أطبائنا الأكثر من ستين ألفاً؛ وعمل الحوالي 250 ألف أستاذ ومعلم؛ وعمل المدربين الرياضيين لا يعود بأي مردود، فلا قيمة له، وفقاً لمنهجية قياس إجمالي الناتج المحلي. ولعله كما قال آخر الحائزين على جائزة نوبل، ستيجليتز، يتم الانطلاق من معطيات عديمة التناسق. وهكذا فإن كل شيء مخادع، حتى طريقة قياس إجمالي الناتج المحلي، فبكل بساطة، لأن جميع هذه الخدمات هي مجانية لا يُحسب إلا الراتب وبعض النفقات الأخرى.

والراتب هو نسبي أيضاً، فأي قدرة شرائية يتمتع بها الراتب بفضل جملة من الإجراءات ذات طابع اجتماعي؟ يتم التأكيد بأنه في البلد كذا يبلغ الراتب 10 دولارات، وفي البلد الآخر كذا يبلغ عشرين دولاراً. كل هذا كذب وهراء، وقد سبق وشرحت ذلك هنا في إحدى المداخلات، وكان يتواجد نصف المتواجدين هنا الآن، غير أنني لن أكرر الشرح؛ ولكن الأمر يتعلق بطائفة واسعة من الأكاذيب والتشويه والتزييف. ونحن لا يبعث هذا القلق عندنا.

إجمالي الناتج المحلي يعني لنا القليل؛ ما يعني الكثير بالنسبة إلينا هو جودة الحياة، الخدمات التعليمية، الخدمات الصحية، الرياضة، الصحة البدنية، والخدمات الترفيهية. أمن كل مواطن يعني لنا أكثر؛ الضمانة الكاملة بأن أحداً لن يبقى تحت رحمة القدر؛ الضمانة الكاملة بأنهم يتمتعون بخدمات مؤمنة، في حين أنه، حتى عند جارنا الشمالي، بالغ الثراء، هناك أكثر من أربعين مليوناً لا يتمتعون بأي خدمة طبية مؤمنة، وتلك التي يفترض بأنها مؤمنة، هي خدمات جزئية، فلا هي حتى كاملة، بالإضافة لما تبلغه كلفتها.

هذا البلد يجب محاصرته، وهذا البلد يجب إدانته، هذه هي المعايير التي ما زالوا حتى يخدعون بها مئات الملايين من الأشخاص في العالم، مع أنه بقدر أقل يوم بعد يوم.

لا بد من رؤية النتائج السياسية لهذا النظام ولماذا يتم الإبقاء على كل تلك الإجراءات ضد كوبا. كوبا لم يستطيعوا إخافتها، ولن يستطيعوا ذلك أبداً، لأنها ثورة تقوم على أساس مبادئ وعلى أساس أعراف لا يمكن انتهاكها.

عندما أسمع كيف يجري التكهن والتكهن هنا بضرورة الاستثمار الأجنبي أتساءل في الحقيقة: "ألم تكن بلدان كثيرة من أمريكا اللاتينية تستطيع التطور يا ترى بالأموال التي تمت سرقتها؟ ألم تكن تستطيع التطور بالأموال التي فرّت؟ لماذا عليها أن تبيع كل شيء، ولماذا عليها أن تكون موثّقة بدين يمتص جزءاً متزايداً من موازناتها الوطنية، 20%، 25%، 30%، بدون أي أمل آخر؟عليها أن تبيع كل شيء، وها لم يعد لديها شيئاً تبيعه، إلا أن تبيع مواطنين أو تصدّر مواهب، لا يدفعون لها مقابلها سنتاً واحداً، ولا يعوّضون النفقات التي تكون الدولة قد دفعتها لتأهيل هؤلاء المهنيين.

إنه شكل خر من أشكال السلب، سلب في جميع الاتجاهات: امتلاك 90 بالمائة من حقوق الامتياز، فلا يعود لدينا حتى الحماية الجمركية، ولا حماية من أي نوع كان، ولا مواهب، ولا بحث، ولا حواجز جمركية. علينا بزراعة البن الذي يدفعون سعراً له يقل يوماً بعد يوم، وعلينا بزراعة المانغا، وزراعة الأفوكادو، وأن نقطع أشجار الغابات من أجل تصدير الخشب، علينا تسليم منتجات غير قابلة للتجدد، كل ما أمكن من الغاز والنفط، وعلينا إخضاع أي منتج زراعي صغير كان للمنافسة مع أي تاجر صغير كان من شبكات المحال الكبرى التي تقضي على كل شيء؛ علينا التنازل حتى عن فكرة التمتع بشركات خطوط جوية، هناك بلدان لم يعد فيها واحدة؛ أو للنقل البحري، لن يبقى واحدة؛ أو للاتصالات، لن يبقى واحدة؛ أو بشركات للتأمين، لن يبقى واحدة. كلها ستنتقل إلى البنوك، ولشركاتهم، كلها ستنتقل إلى أيديهم.

ماذا سيبقى في أيدي شعوبنا؟، لأننا لن نكون ولا حتى ملحَقين، أو، في أفضل الأحوال، سنكون ملحقين كما أُلحق السكان الأفرو-أمريكيون، الذين كانوا ما يزالوا عبيداً بعد مرور نحو قرن على بيان الاستقلال، وبعد قرن تقريباً، أو بعد قرنٍ عملياً من إلغاء العبودية، الذي كلف حرباً دموية، فكان على لوثير كينغ ومالكولوم أكس وغيرهم كثيرين من الأفرو-أمريكيين أن يموتوا لكي ينخفض تمييزٌ لم يندثر بعد حتى الآن.

الحقيقة أننا نحن أيضاً نتعرض للتمييز، أي كان لون بشرتنا، لأننا بلدان تتحدث الإسبانية: نافعون جداً لتكنيس الشوارع، ونافعون جداً للمّ كل شيء والعيش أحياناً كثيرة خارج القانون، ومحكوم علينا بالانفصال عن عائلاتنا، لأنه ليس هناك من حل، فلا يوجد هناك "قانون ضبط"، ولا نريد له أن يكون، لأنه قانون قاتل؛ ولكنهم لو كانوا قد وضعوا قانوناً كهذا للمكسيك، لأمريكا الوسطى وباقي البلدان، لكان المكسيكيون والأمريكيون اللاتينيون اليوم أكبر عدداً من الأمريكيين من أصل أوروبي.

حرية لحركة رؤوس المال، حرية لحركة للسلع؛ ولكن لا حرية لحركة العمال.

كل شيء سيتعرض للامتصاص، والخطر الأكبر هو ألا يكون هناك وعياً كافياً.

عندما اجتمع المشاركون في منتدى ساو باولو هنا لمناقشة موضوع "منطقة التجارة الحرة الخاصة بالأمريكتين"، كان عند جميع المشاركين أفكاراً واضحة حول المشكلات الأساسية، ويعون المشكلة تماماً، ووجهنا نحن الدعوة لهم: يجب بث الأفكار، يجب بث الرسائل، يجب بعث الوعي، لأنهم يقولون للواحد بأن ذلك رائع، ويقولونها له عبر الإذاعة والتلفزيون، عبر كل الوسائل، ثم يأخذونهم لاحقاً إلى صناديق الاقتراع.

طرحنا نحن موضوع إجراء استفتاء، ولكن ليس في العام المقبل، الاستفتاء في عام 2004، قبل الموافقة على "منطقة التجارة الحرة الخاصة بالأمريكتين". ويستحق الأمر استغلال الانتخابات الراهنة من أجل بلورة هذا الوعي، لأنهم قادرين، عبر مزايدتهم ووسائل إعلامهم واستغلالهم لعدم ثقافة وجهل مواطني هذا الجزء من القارة، على جعل هؤلاء يصوتون لصالح الضم، اعتقاداً منهم بأن ذلك أمر جيد جداً، لأنه لم يشرح لهم أحد أبداً ما هو صندوق النقد الدولي، أي إجراءات هي القائمة. الأمر الوحيد الذي يقولونه لهم هو: "إنه جيد بالنسبة لاستثمار القطاع الخاص، يجب الركوع طلباً لاستثمار القطاع الخاص".

نحن لا نفعل ذلك، ولا نقدم شيئاً كهدية. فنحن، حيث يتوفر لنا رأسمال من أجل شراء آلة تستعيد ثمنها خلال سنة، لن نقوم بإهداء هذه الفوائد، وإنما نبحث عن المليون ونستثمره. آه! إذا احتاج الأمر لتكنولوجيا كتلك اللازمة للحفر في أعماق البحر مثلاً، لا نغط في حلم، ولا نجلس بالانتظار؛ نقوم حينها، مع معرفتنا للخبرة الدولية، بإبرام عقود، ونقيم شركات مختلطة.

الجزء الأكبر من الفنادق في بلدنا هو كوبي، وتم بناؤه برأسمال كوبي، بجلد كوبي، لأننا قاومنا بقوة الوعي، وبقوة روح التضحية وبقوة جلدنا. لديهم أسماء لامعة لشركات لم تضع سنتاً واحداً؛ بينما يلائمنا ذلك. نوقع معها عقد خدمة، فهي التي توفر السوق. في نهاية المطاف، نحن نقدّر أين هي الفوائد في أي استثمار خاص. هناك من لا يرغبون بإقامة شركات مختلطة، يرغبون بامتلاك مائة بالمائة من الشركة. كانت هناك حالات قليلة كهذه، ولكن بالوسع الوصول إلى ذلك إذا كان الأمر يتعلق بتكنولوجيا معينة لصناعة منتج من شأن كلفته من العملة الصعبة إذا ما أُنتج هنا من قبل شركة مائة بالمائة أجنبية أن تكون أقل قدراً من كلفة استيراده.

لا يبعث هذا القلق عندنا، فما يسود هو مبدأ مصالح البلاد فوق كل شيء؛ يسود مبدأ ما هو ملائم للبلاد، ويتم تقديره على نحو صارم. لا تفقد البلاد السيطرة على اقتصادها، ولا الغايات الاجتماعية من نموها. ليست النيوليبرالية بالغة الجودة، فهي لم تستطع إعادة قيمة عملة أي بلد من بلدان العالم الثالث. بعد هذه المرحلة الصعبة من الفترة الخاصة–صعبة، ولكنها مجيدة، علّمتنا الكثير-، عام 1994، كانت قيمة البيسو عندنا قد انخفضت إلى مستوى 150 بيسو للدولار الواحد، وخلال خمس سنوات تمكنّا من استعادة قيمته من 150 إلى 20 بيسو مقابل الدولار الواحد.

نتحداهم بأن يعثروا على بلد واحد تمكن من فعل ذلك مرة واحدة، واحد على الأقل، إعادة القيمة لعملته سبعة أضعاف ما وصل إليه. فقد الآن من قيمته بعض الشيء عندما بدأت تسقط القنابل على أفغانستان، نتيجة أثر نفسي ما. كانت قيمة البيسو تبلغ 22 مقابل الدولار الواحد في تلك اللحظة؛ وبدأ أناس كثيرون بشراء الدولار بالعملة المحلية في دور تبديل العملات. بلغت قيمته أحياناً 19 أو 20؛ والحقيقة أنه لا يلائمنا رفع قيمته أكثر، وإنما المحافظة على تسعيرته بمستوى حوالي 20.

كان سعر الدولار يبلغ 22 بيسو في 11 أيلول/سبتمبر، وبدأت قيمة البيسو بالانخفاض؛ وتم حل هذه المشكلة برفع قيمة الدولار بمقدار أربع نقاط. توقف هذا الاتجاه، لأنه طالما كان هناك طلب أكبر على البيسو، فأشياء كثيرة لا يمكن اقتناؤها إلا بهذه العملة. بالإضافة لذلك يتمتع البيسو بفائدة مصرفية أكبر في الإيداعات متوسطة المدى، ما يزيد بخمسين بالمائة تقريباً. نعم، أكثر من عملتنا بالبيسو القابل للصرف بخمسين بالمائة، لأن لدينا نحن بيسو قابل للصرف، لكنه ليس كالبيسو الأرجنتيني، لا يمكن لهذا أن يفرّ، لا إذا نمت له جوانح وطار كالفراشة بمساعدة الرياح ووصل إلى فلوريدا. الرياح التجارية تأتي عادة من الاتجاه المعاكس؛ ولكن في بعض الأحيان تأتي رياح جنوبية، ويمكن لدولار أن يفلت ويصل إلى جزيرة ماراثون، أو إلى جزيرة كايو ويسو؛ ولكن لا يمكنه أن يفلت إلا إذا طار.

وهناك العملة الأخرى، وهي العملة الأجنبية؛ ليس الدولار فقط، يقال عادة الدولار لأنه ليس ثمّة طريقة أخرى لقياس قيمة عملة ما غير استخدام الدولار. إذا استخدمت اللير تفقد صوابك، وإذا استخدمت الين تفقد صوابك، حتى أن الحسابات تتعقد إذا استخدمت الدولار الكندي، لأن قيمته تبلغ 61 بالمائة أو 65 بالمائة. لا يبقَ أمامنا مفر من الحساب بالدولار، من منطلق عملي، من أجل توفير حسابات وتوفير طاقة كهربائية على أجهزة الكمبيوتر.

لا نعرف في سياستنا النقدية تلك المآسي التي تتكلمون عنها أنتم: ما إذا كانت نسبة الفائدة، وإذا ما كان صندوق النقد الدولي قد وعد بكذا ولم يفِ، وما إذا كانت قيمة العملة قد انخفضت. أي عملة لا تنخفض قيمتها؟ وأي منها آمنة؟

نعرف تمام المعرفة طبعاً بأنه يكون أفضل لو كانت هناك عملة مشتركة واحدة في أمريكا اللاتينية، ولكننا بعيدين جداً عن الشروط اللازمة لحل المشكلة بعملة واحدة. هكذا تسلم، وهكذا لا يبدّلوا استخدام عملتهم باستخدام الدولار، وهكذا لا تفرّ الأموال… وأنا لا أعرف كيف ستكف عن الفرار، وكيف يمكنها أن تكف عن الفرار، وكيف يمكن تفادي فقدانها لقيمتها. هذا هو الوضع الفعلي، المشكلات هي أكبر بكثير وأكثر تعقيداً بكثير.

لقد قيلت هنا أشياء مثيرة للاهتمام، من بينها تلك التي ذكرها الحائز على جائزة نوبل لعام 2001، البروفيسور ستيجليتز. لسنا منظّرين في الاقتصاد، ولكن الكفاح أرغمنا على ملاحظة الكثير مما يحصل في مجاله.

لقد استمعنا إلى طروحات رائعة. البروفيسور ستيجليتز كان حذراً نسبياً هنا –في العاصمة الكوبية يجب الانتباه جداً على الدوام لما يقال-، ولكنه كتب مقالات ممتازة، نعرف بعضاً منها: المقدّمة الشهيرة التي كتبها لعمل بولانجي، رجل الاقتصاد الذي دافع عن مفاهيم أخرى عندما طُرح موضوع بريتون وودز. يجب رؤية الأشياء التي يقولها والانتقادات التي يوجهها لمفاهيم صندوق النقد، وبأي وضوح يحمّله مسؤولية المأساة التي يعيشها العديد من البلدان.

له مقالة أخرى عنوانها "ما تعلمته من أزمة جنوب شرق آسيا" ويطرح فيها مختلف الآراء، بلداً بلداً، ومختلف مفاهيم الذين كانوا يؤيدون التخفيف من حدة وضع البلدان التي أخذت تقع في أزمة، وخاصة كيف وقعت فيها ولماذا. ويشرح أيضاً بأن جميعها تطورت على أساس إجراءات حماية صارمة. أرغموها على تبديل هذا الخط، ساروا بها إلى التحرير الكامل فأصبحت بلا عملات صعبة، وأصبحت بلا احتياط في وجه ضربات المضاربين.

هناك عديم احترام اسمه مخاتير بحث عن صيغة أخرى، تحدّاهم؛ فحافظ على موارد، وحمى نفسه بشكل أفضل من الوضع الحرج؛ آخرون غيره خسروا كل شيء، ونفع ذلك لكي تقوم شركات أمريكية كثيرة عابرة للحدود بشراء الصناعات في كثير من هذه البلدان بأسعار يمكن القول بأنها لا تنافس، هذا بالإضافة إلى الجنون الذي يطبقونه حميا، والمتعلق بحرية الحركة، التحرير الكامل للتبادل، التحرير الكامل لحركة رؤوس الأموال؛ أي، البلبلة الكاملة.

أين هو مستقبل هذه البلدان؟ هل كان هناك حدّا أدنى من البرامج يا ترى؟ أنا لست أطرح "لجنة خطة" (GOSPLAN) عالمية. أتجرأ على القول بأنه أمكن لذلك أن يحدث، قبل أن يتعلموا صنع الأشياء بشكل حسن، في الواقع، بمفهوم آخر. وأقول ذلك بقوة معرفتي لما فعله شعبنا خلال 43 سنة.

المسألة أنه لا يوجد ولا حدّ أدنى من التنسيق، فهم يجعلون جميع البلدان تنتج شرائح (chips) للإنترنيت أو للتلفزيون، وتصل أسعارها حتى دولار واحد للقطعة، وعند حدوث فائض في الإنتاج ينخفض إلى خمسة سنتات، أو يجعلون الجميع ينتجون أجهزة تلفاز أو برّادات أو أدوات منزلية.

عبر التكنولوجيا المتوفرة عندها القدرة على إنتاج كميات لا حدود لها، ولكنها لا تتوفر قدرة شرائية لاقتناء كل ما بوسع هذه الصناعات إنتاجه.

ولكي يطفح الكيل، يجعلون تايلاند أو أندونيسيا تنتج سيارات فارهة، من نوع ميرسيدس بينز، في الوقت الذي كان فيه متوقفاً نصف صناعة السيارات في اليابان. إذن، كلما طوروا مزيداً من التكنولوجيا ومزيداً من إنتاج العمل، كلما قلت فرص العمل وبالتالي كثر عدد العاطلين عنه، ثم مزيدا من الأزمة. ليس هذا بشيء. بودّي الآن، وقد انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية، أن أرى من سيتفوق على الصينيين في إنتاج كل هذه الأمور. لحظياً، خرجنا رابحين كثيراً جداً. فنحن لا يمكن أن يخطر على بالنا أن نقيم شركة إنتاج شاشات تلفزيونية؛ ولكننا اشترينا مليون جهاز تلفزيون صيني.

التلفزيون بالنسبة إلينا هو أداة تربوية، ثقافية، لا يقدر أحد ما يمكن فعله من خلاله! إننا نقوم بتعليم اللغات في دورات جماهيرية ضمن برامج نطلق عليها اسم "الجامعة للجميع"، ويا لها من نتائج تعود بها.

في هذا الأسبوع نفسه أو في الأسبوع المقبل تبدأ المراجعات. بما أن الالتحاق بالمستوى العالي الجامعي يعتمد على الملفات التعليمية، إلى آخره، وضعنا برنامج مراجعة للمواد الدراسية الأساسية التي تحدد الالتحاق، ذلك أنه في السابق كانت العائلات ذات المستوى الثقافي الأعلى، وذات الإمكانيات الأكبر قليلاً، هي وحدها تستطيع أن تأتي بأساتذة مراجعة لأبنائها، لأن جميع العائلات طبعاً تريد لأبنائها أن يلتحقوا بالجامعات.

لقد قلت بأننا نخجل مما فعلناه حتى الآن، لأننا اكتشفنا يوماً بأن ليس جميع الأطفال الذين يولدون في هذا البلد يتمتعون بذات الإمكانيات بالضبط. وبعد الاستفسار والتمحيص في هذه المسائل المتعلقة بالعدل، اكتشفنا، بعد سنوات كثيرة من الكفاح الثوري وبعد قيامنا بما يبلغ ربما عشرة أضعاف ما قام به أي بلد آخر من أمريكا اللاتينية من الناحية الاجتماعية، وكما ذكرت للمشاركين في مؤتمر الصحافيين الأمريكيين اللاتينيين، بأننا نشعر بالخجل بما فعلناه حتى الآن، وذلك لتفكيرنا بالأشياء التي كان بالإمكان صنعها، ولم نكن قد قمنا بها بسبب الجهل، وها نحن اليوم نقوم بها. إنها أكثر من سبعين برنامجاً للتنمية الاجتماعية. أحدها هو "الجامعة للجميع"، وهذا ليس مزاحاً؛ وبرنامج آخر هو، في مرحلة التعليم الابتدائي، الوصول إلى عشرين تلميذاً لكل معلم، وليس هذا هو الأمثل بعد، من 37 كمعدّل إلى عشرين كحد أقصى. لقد أوصلنا البرامج عبر التلفزيون إلى ال‍ 1944 مدرسة التي لم تكن تتمتع بها، لأنها كانت تفتقد للطاقة الكهربائية، وقد حلينا هذه المشكلة بواسطة طبق شمسي، ويجري الآن تركيب طبق شمسي آخر للكمبيوتر، وتتكلل هذه المهمة بعد بضعة أسابيع. لن يبق مدرسة واحدة من المدارس ال‍ 1944 بدون هذا البرنامج، ومن هذه المدارس هناك 21 يوجد فيها تلميذ واحد، وقد أصبح هذا التلميذ يتمتع بمجاز لتعليم المرحلة الابتدائية –يعيش في مكان بعيد، وعلى الأرجح هو ابن حارس غابات-، طبق شمسي مع جهاز تلفزيوني، من الأجهزة الصينية –التي تستهلك 60 واط، إنها اقتصادية جداً، وتتمتع بصورة ممتازة-، والآن يأتيه جهاز الكمبيوتر الذي أصبح بإمكان المجاز، الذي تلقى دورة لتعليم المرحلة الابتدائية –كان يتمتع بمنهجية التعليم وتلقى الآن دورة مدتها 174 ساعة- أن يدرّس برنامج الكمبيوتر الخاص بهذا الطفل؛ وبالإضافة لذلك، أن يواصل دراسته ويحسّن دخله.

أساتذة الكمبيوتر للمدارس الابتدائية في مدينة هافانا، وكل شيء في العاصمة يكون أسهل كالعادة، يتلقون دورات مدتها 800 ساعة؛ ليسوا هم بمعلّمين، لأنه كان عندنا عجز في عددهم، وإنما هم شبان في الصف الحادي عشر قادمون من معاهد ثانوية لتخريج المعلمين.

لدينا في هذه اللحظة حوالي 600 قاعة فيديو، فيها أجهزة تلفزيون بقياس 19 بوصة وطبق شمسي، في 600 بلدة أو قرية لا تتوفر فيها الطاقة الكهربائية. وعلى هذا النحو نقوم بتمكين جميع مواطني البلاد من الوصول إلى مشاهدة التلفزيون، وهم يذهبون ويتصرفون بالتزام يبعث الإعجاب. لا يتم الذهاب إلى هناك من أجل احتساء الروم، وعندما تصلهم البرامج يشكل ذلك حدثاً بحد ذاته. سيبلغ عددها 700 في هذا الدفعة الأولى وسيتم توفير 700 أخرى قريباً. في نهاية هذه السنة سيكون متوفراً في جميع البلدات نحو 1500؛ فكل تجمع يتكون من 15 منزل أو أكثر سيتمع بهذه القاعة التي يقومون هم أنفسهم ببنائها بموارد قليلة جداً.

كم كلّفنا حمل الأطباق الشمسية إلى ال‍ 1944 مدرسة التي لا تصل إليها شبكة الكهرباء؟ أي من الخيارين هو أكثر اقتصادية؟ الطبق الشمسي. مجموع عدد الأطباق الشمسية، 1944؛ التكلفة، مليونين و 200 ألف دولار، وهذا المبلغ يحمله بعضهم ويطير به في يوم واحد أو لنقل خلال أسبوع. هل مليونان ومائتا ألف دولار هو كثير من المال؟

وضع أجهزة الكمبيوتر في هذه الأماكن نفسها هو أعلى كلفة بقليل، بسبب الحاجة لحل مشكلة الكهرباء، لأن بعضهم، إذا كان لديه أكثر من أربعين تلميذاً يحتاج إلى أكثر من كيلواط واحد يومياً، فيتوجب حينها وضع طبق مزدوج تبلغ كلفته 1900 دولار. سيتم في هذا البرنامج إنفاق حوالي مليونين ونصف المليون دولار. إذن، نستطيع القول: جميع أطفال البلاد، ابتداء من بلوغهم الخامسة، يتمتعون بالوصول إلى البرامج التلفزيونية، التي هي وسيلة مسموعة ومرئية رائعة، وخاصة إذا تمتعوا أيضاً بمعلم، لأن الوسائل لمسموعة والمرئية لا تأتي لإلغاء فرصة عمل المعلم. هناك بعض المواد التي نواجه عجزاً فيها، كالإنكليزية، أو مادة ما غيرها، يتوجب البحث عن أحد هناك لكي يساعد فيها؛ ولكننا نقدم هذه البرامج عبر التلفزيون.

لقد أصبحت لدينا قناةً تلفزيونية ثالثة تشمل ثلث عدد المواطنين، مخصصة للتعليم فقط. ما قمنا به حتى الآن كان عبر القناتين الوطنيتين، اللتين تساهم كل واحدة منهما بست ساعات، وباثنتين يوم الأحد. يتم استخدام هذا الوقت جيداً لحلقات نقاش مختلفة، يمكن أن تكون عن الرسم، أو عن الرقص، أو عن تقنيات الرواية وغيرها من المواد. أي أنها معارف متقدمة جداً توضع في متناول المواطنين.

اليوم بالذات كنت أطلع بيريز إيسكيفيل على الآراء التي تم جمعها يوم أمس، بعد الطاولة المستديرة حول المشكلة الأرجنتينية. بعد كل واحد من هذه المواضيع نجمع ما بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف رأي عفوي، ونرى بأنه مدهش ما تعلّمه شعبنا خلال سنتين. تستطيعون أنتم أن تكلمونه عن صندوق النقد الدولي، البنك العالمي، تستطيعون أن تكلمونه عن عدد من المواضيع لم يكن شعبنا يعرفها قبل ثلاث سنوات. بين الحين والآخر، إذا كانت المادة الدراسية ثقيلة، يوصى المحاضرون بأن يشرحوا أي مصطلح فني يستخدمونه من المصطلحات التي لا بد من استخدامها.

هذه البرامج، على غرار "الجامعة للجميع"، تكلف الدولة كل ساعة من تعليم اللغة الإنكليزية عبر التلفزيون 109 دولارات. إذا كان مليون شخصاً يتلقون 160 ساعة من الدروس، فإن التكلفة تبلغ 1.8 سنتات مقابل الشخص الواحد. يمكن أن يلاحَظ كم هي الكلفة متدنية. وإذا كانت هذه الدروس تُعطى في ثلاث ساعات مختلفة من أجل مزيد من الراحة للذين يتابعون الدورة، حسب نشاطهم اليومي: في الساعة السابعة صباحاً، والثانية ظهراً والحادية عشرة ليلاً، فإن الكلفة على الدولة تبلغ 5.4 سنتاً من الدولار؛ أما الذي يتلقى الدورة كاملة فهو يستهلك 8 سنتات من الكهرباء، و25 سنتاً من الدولار، وهي ما تبلغه بالعملة الصعبة كلفة المادة الدراسة المطبوعة التي تسلَّم له: المجموع 33 سنتاً مقابل 160 ساعة من الدروس.

لقد وضعنا كل التكنولوجيا في خدمة تعليم المواطنين وتثقيفهم. لا توجد دعاية تجارية، وهي لم توجد أبداً؛ السبوت [الإعلانات] التي تقدّم إنما هي لتوجيه النصائح بعدم تناول المشروبات الكحولية، وعدم التدخين، وكيفية اعتناء الأم بطفلها، ودورات تعليمية، أما إعلانات تجارية فأبداً لا.

أنتم تعرفون بأن التلفزيون في بلد كل منكم يقطع برامجه باستمرار ليقدم إعلاناته التجارية الشهيرة. في اللحظات الذروة، أكثرها إثارة، يقطعون البرنامج ويقدمون إعلاناً تجارياً. لا يُعرف هذا هنا، فنستطيع أن نصنع بهذه الوسائل الفنية ما نريد أن نفعله، والكلفة هي اقتصادية جداً.

لقد شرّفنا بيريز إيسكيفيل بتذكيرنا بالسبعمئة وخمسين ألف شاب الذين ندفع لهم راتباً بسبب دراستهم؛ ليس طلاب الدورات العادية. ما علينا تفاديه هو عدم إقدام أي شاب يصل إلى مستوى الصف التاسع على الامتناع لاحقاً، لسبب ما، عن الدراسة وعن العمل. ويمكن أن يأتي من بين الأسباب أن تتزوج فتاة وهي في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمرها؛ وآخر، يعتمد على العائلة والمستوى التعليمي وغيرهما من العوامل الكثيرة التي درسناها جيداً ونتابع دراستها.

أصبحنا نعرف تماماً ماذا نفعل لكي لا يترك أحدهم النظام التعليمي: تفاعُل مع العائلة، تفاعُل مع الشاب، حفزه –وقد تعلمنا شيئاً من هذا- في مستوى الصف التاسع؛ هؤلاء التلاميذ يبلغون من العمر ما يتراوح ما بين السبعة عشرة والثلاثين سنة –وقد شرحت ذلك قبل يومين، ولكن كثيرين لم يكونوا حاضرين هنا-، بعد نجاحهم في الصف التاسع على الأقل، يُنهي بعضهم المرحلة الثانوية، أو في مجال آخر من مجالات التعليم العالي؛ وبالتالي فإن تصنيف الصف التاسع سيندثر خلال سنوات قليلة. ويبلغ عددهم 750 ألف لأنه لا يوجد أكثر من هذا العدد. لو كانوا 100 ألف، 120 ألف، كان بوسعنا أن نفعل ذلك أيضاً، فهذا لا يكلّف شيئاً. ندفع لهم راتبا يحلّون به مشكلات كثيرة وإذا لم نوفر لهم فرصة عمل ثابتة كمهنيين، نقوم بإعدادهم، فيأخذ كل منهم بشغل وظيفته بالقدر الذي يتم به توفيرها؛ لأن الحال في محافظة وأخرى ليس سواء، فعند بعضها تطوراً معيناً في مجال السياحة، على سبيل المثال، أو غيرها من الصناعات، وكل واحدة منها أكثر من الأخرى.

أو أنها تكون أمّاً لثلاثة أولاد. كانت تجلس هناك، في الصف الثالث تقريباً، خلال مؤتمر طلابي، شابة من محافظة غوانتانامو عندها ثلاثة أولاد، وهي من أسعد النساء في العالم، ولم تغب عن المدرسة مرة واحدة. ونسبة الحضور في هذه المدارس، بشكل عام، هي 95 بالمائة.

إن ما يمكن فعله هو أمر لا يصدّق، وما تبلغ كلفته بالنسبة إلينا على أساس سعر الصرف 20 بيسو مقابل الدولار الواحد لا يصدقها أحد، ذلك أن للبيسو عندنا قيمة شرائية.

والآن، لاحظوا مدى الثقة التي يتم إظهارها. عندما طرأ تغير في الاتجاه في دور تبديل العملات، حيث بدأ شراء دولارات أكثر من شراء البيسو كان من الضروري تقديم شرح وتوجيه عام، لم يدم ذلك الوضع اعتباراً منهما ولا حتى يومين؛ إنها الثقة التي يتمتعون بها حيال البنك، لأنه لم يتم أبداً لمس أموال المدّخرين.

كانت قد سرت بعض الشائعات بأنه سيجري إغلاق دور صرف العملات، فتم التأكيد لهم بأنها ستبقى، كما تم التأكيد بأن الأسعار بالبيسو لن تتبدل، باستثناء أسعار الأسواق الزراعية الرعوية وهي أسواق حرة.

ونحن عاكفون على مواجهة الإعصار، وهو الإعصار الأكثر دماراً تشهده البلاد؛ ويتلقى ستة ملايين شخص اليوم مساعدات بسبب الإعصار، الذي لوى الأبراج الفولاذية المخصصة للبث التلفزيوني في بعض المناطق وأسقط خطوط التوتر العالي.

تقوم البلاد اليوم بمواجهة هذه المشكلة، بالتوافق مع الأزمة الاقتصادية؛ إنها تواجه اليوم البعوض، الآيديس أيجيبتي؛ الوحيدين الذين لم نجنّدهم لهذه المعركة هم الطلاب الألفين في هذه المدرسة، وجزء منهم يتواجد في الجانب الأيسر [من القاعة]، إنهم تلاميذ مدرسة لم يتم إنجازها بعد. سوف يدرسون تمريض اعتباراً من إنجازهم الصف العاشر.

لدينا بعض العجز في عدد الممرضات في العاصمة. إنهم فتيان رائعون. هل تعرفون كيف هم يدرسون؟ في 52 مكاناً مختلفاً. تم اختيارهم حسب البلديات، وسوف يعملون في أماكن قريبة من أماكن إقامتهم. يتلقون دروسهم، ولديهم مديرة ما فوق العادية. ألم تأتِ المديرة اليوم؟ (يقولون له بأن نعم). مديرة جيدة جداً، إنهم يعرفون ذلك (تصفيق). ولديهم دافعاً هائلاً للدراسة؛ ولا يقومون هم بالمشاركة لأنهم في الصف العاشر، ما زالوا صغاراً جداً بعد. هناك مدارس أخرى فيها خريجين من المرحلة الثانوية، إنهم طلاب يراقبون الجودة، وكذلك من مدارس العمال الاجتماعيين، وهو عمل آخر قمنا بإبداعه. ويلتحق بها سبعة آلاف ممن أنجزوا المرحلة الثانوية.

التعليم الجامعي سوف يتضاعف؛ التعليم عبر اللقاءات سيتم في البلديات، ذات ما فعلناه مع هؤلاء الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و 30 سنة، وفي نفس منشآن التعليم الإعدادي، التي تصبح فارغة في الساعة الخامسة عصراً، وذلك بين الساعة الخامسة والنصف والثامنة والنصف مساءً، أربعة أيام في الأسبوع، وها هم قد بدأوا يطلبون يوماً خامساً.

هذه البرامج يجري تنفيذها، وكم تكلّف؟ لا شيء، ولا أي مبنى، الأساتذة الذين يعطون الدروس. لقد قلت لكم: لديهم هناك مختبرات كمبيوتر، لديهم البرامج اللازمة لأي شيء. سوف تُعطى لهم معلومات عامة ولغة ومعارف، يستطيعون الالتحاق بالجامعات.

أصبح لدينا اليوم مهنيين، اقتصاديين، محامين، عمال ذوي مهارات في أيٍّ من بلديات البلاد، ما يكفي لكي يعملوا كأساتذة، أو أساتذة مساعدين في الجامعة. كانت الدورات عبر اللقاءات ستُعطى أيام السبت، والآن أصبح بالإمكان إعطائها ثلاثة أيام في الأسبوع، بدون الحاجة لمغادرة البلدية، لأننا نعاني من ضوائق في وسائل النقل. غيّرنا النهج، وسنضاعف الفرص ونقدمها من أجل الدراسة الجامعية بطريقة اقتصادية وسهلة.

لقد تحدثتم عن مشروع هنا هو مشروع أكيد لمكافحة البطالة، أو أن هناك بلداناً لديها أموال تقوم بالإعانة؛ ولكن لا ينبغي أن يكون الإنسان فائضاً عن الحاجة. إن ما هو أكثر إذلالاً في البطالة هو الشعور بأن المواطن يزيد عن الحاجة، إنه شعور يجرح نظرته لنفسه.

هذه هي قوى عظيمة أخذنا باكتشافها. إن النجاحات الآخذة كل البرامج الجديدة هذه بتحقيقها تقوم على أساس الشغف للعلم عند الإنسان. حسناً، لماذا نقوم بإعانتهم؟ لماذا لا ننظم مدرسة؟ إذا لم نكن نستطيع تأمين فرصة عمل خلال مدة قصيرة نسبياً، نقوم في العام التالي بزيادة دخله، ويمكن إبداع مهنة جديدة، مهنة الحكيم؛ يمكنهم مواصلة الدراسة إلى أن يتحولوا إلى حكماء.

لا يراودني الشك بأن كثيرات من هذه النساء –علينا أن نرى، الأغلبية، 65 بالمائة هم من النساء- ستتخرجن من الجامعات، ولن تواجهن مشكلة، ويكون أبناؤهن إلى جانبهن، ويتمتعون بالخدمات التعليمية والخدمات الصحية والترفيهية، ولن ينقصهم شيء، فهو ما نقوم بفعله مع كل المجتمع.

لقد اكتشفنا علاقات بالغة الأهمية بين المعرفة والثقافة والجريمة، وخاصة في قارة تنمو فيها الجريمة، كما تعرفون أنتم تمام المعرفة، وحيث يرتفع استهلاك المخدرات، وهو بلاء نجونا منه نحن؛ ولا أعرف كيف سيتدبرون أمرهم الآن في الوقت الذي تنشأ فيه النشوة وغيرها من الأمور، ومن المعروف إحصائياً كيف أنه يزداد استهلاكها بين الشبان، إنه يتضاعف مرتين وثلاث، وهي مادة أرخص ثمناً من الكوكائين المعروفة. إنها مسألة تربية، ونحن نفكّر بمربّين، وليس بناقلي معارف، وذلك احتكاماً لمبدأ فيلسوف كبير يعود عهده إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر حين قال: "أي كان يستطيع أن يعلّم؛ أما التربية فليس إلا مبشراً حياً".

سنقوم بقفزة نوعية منذ اللحظة التي نتمتع بها بمربّين، والآن مربي واحد لكل عشرين، ثم لكل 15 لاحقاً. ونحن نقوم أيضاً بتطوير برامج وتجريبها، وبفضل ذلك نفكر بأن يكون للصف السابع والثامن والتاسع، أي المرحلة الأولى من الإعدادية، أستاذاً لكل 15 طالب.

لن تكون هناك بطالة. سنأخذ بتحضير الناس. لقد وعدنا جميع الشبان بأن فرصة عملهم مؤمنة، بشرط واحد: أن يكونوا مؤهلين. عبر الأفكار الجديدة التي تم الأخذ بتطويرها، أخذنا بتخفيض نسبة البطالة، وقد ذكرت ذلك في مناسبة أخرى. وصلت نسبته في لحظة معينة إلى 8 بالمائة، وفي نهايات عام 2000 وصلت إلى 5.4 بالمائة؛ وتبلغ اليوم 4.1 بالمائة، وستصل في نهاية العام الحالي إلى ما بين 3 و 3.5 بالمائة، هذا إذا لم نخفّضها أكثر من ذلك.

إن تصنيف عاطل عن العمل يجب أن يندثر. فلا يمكن للإنسان أن يفيض عن الحاجة، والمجتمع الذي يفيض فيه الإنسان لا ينفع، لا يحتمل تحليلا أخلاقياً، لا يحتمل تحليلاً إنسانياً، وبالتالي فهو بحد ذاته مُدان من الناحية الأخلاقية والإنسانية.

لم يكن بالإمكان في عهد روما التفكير بذلك، ولا في العصور الوسطى؛ ولكن اليوم هو أمر ممكن، فهناك ما يكفي من المعارف وهناك حججاً للدفاع عن الحد الأدنى من العقلانية التي يحتاجها مجتمع ما لكي لا يفيض الناس عنده عن الحاجة. لقد ذهبنا نحن إلى أبعد من ذلك، ولكنني لن أضيف المزيد. ما الذي لا يمكن توفره في مجتمع متوسط العقلانية؟

نرى بأن التكنولوجيا الصناعية، التي تزداد حداثة وإنتاجية يوماً بعد يوم، تؤدي إلى البطالة، والبطالة هي علة، كالظل، لا يمكن القضاء عليها فوق اعتبار النظام. وقد حللتم أنتم ذلك هنا.

كان يوم أمس يوماً خاصاً بالنسبة لي. وزيرنا رئيس المصرف المركزي شرح بعض المعطيات المثيرة للاهتمام الكبير، حين تكلم عن المضاربة والطلاق بين الاقتصاد الفعلي وبين اقتصاد المضاربة. لا يمكن نسيان المعلومة التي ذكرها بأن بورصات الأسعار أو قيمة أسهم بورصات الأسعار في البلدان الصناعية تساوي عملياً إجمالي الناتج السنوي لكل الاقتصاد العالمي. فالقيمة المنفوخة للأسهم كانت تبلغ 31.2 مليون مليون؛ وإجمالي الناتج العالمي من السلع والخدمات 31.3 مليون مليون.

لاحظوا إلى أي مدى وصل الأمر. وفي الولايات المتحدة أيضاً، التي تتمتع بحوالي عشرة ملايين مليون كإجمالي ناتج محلي، تصل قيمة أسهم البورصات إلى 1.3 ضعف قيمة إجمالي الناتج المحلي هذا.

عرض معلومة أخرى تثير الكثير من الدهشة عندما قال بأن قيمة أسهم بعض مجموعات بورصة أسعار الولايات المتحدة كانت قد ارتفعت بين عامي 1981 و 1999 بنسبة 570 بالمائة ولم ترتفع الأرباح في تلك الفترة إلا بنسبة 61 بالمائة.

هل هناك حاجة لمزيد من البراهين على أن الاقتصاد لم يعد موجوداً؟ عن أي اقتصاد تتحدثون أنتم؟، قولوا لي الحقيقة.

سيتوجب على الاقتصاديين أن يتحولوا إلى خبراء في اللعب، في الفوازير. نعم، لأن الاقتصاد قد تحول إلى كازينو. لقد تم تحويل الاقتصاديين اليوم إلى مستخدمين لكازينو الاقتصاد العالمي، ومن الضروري جداً أن يعرف هؤلاء المستخدمون كيف يعمل الكازينو. لقد أصبح من المعروف بأن قيمة عمليات المضاربة تصل إلى ثلاثة ملايين مليون دولار يومياً.

أذكر أنه في كوبنهاغن، في اجتماع قمة انعقد حول المشكلات الاجتماعية، تقابلتُ مع زعيم أوروبي ذي مكانة مرموقة وحدثني بيأس عن وجود عمليات مضاربة بقيمة 1.2 مليون مليون دولار يومياً. وخلال عشر سنوات أصبحت هذه القيمة ثلاثة ملايين مليون دولار يومياً؛ وخلافاً لذلك، جميع عمليات التجارة العالمية لا تبلغ إلا حوالي ثمانية ملايين مليون دولار، أي أنه كل ثلاثة أيام ينتُج تدفق من الأموال ناجم عن عمليات المضاربة أكثر مما تحتاجه التجارة العالمية خلال سنة. أي اقتصاد هو هذا؟

إذن، يجب على المرء أن يكون اقتصادياً، وخبيراً في العلوم السياسية، وخبيراً في ألعاب المقامرة، وبالإضافة لذلك منجّماً، لكي يتمكن من قراءة الأحداث.

يفقد المرء في بعض الأحيان صبره، لأنه يشاهد تكرر وتكرر ظاهرة ما، نبدو حيالها عاجزين ولا يمكن فعل شيء، ومعه كل الحق في ذلك، غير أنني بعيد عن أن أكون متشائماً. العوالم الجديدة لن تخرج من رأس أحد، وأولئك الذين حلموا بذلك منذ عصر أفلاطون يسمونهم –كما تعرفون أنتم- طوباويين. ولكن ليس كل العالم طوباوي؛ كان مارتيه يشكو بمرارة، وقد قال ذلك: "أولئك الذين يسمونني حالماً…"، أقول لهم أن "أحلام اليوم ستكون حقائق الغد".

من يحدثكم هو حالم عاش تجربة مشاهدة أحلام تتحول إلى حقائق؛ وعاش خجل رؤيته بأنه أمكن لهذه أن تكون حقائق أكبر. أفعل ذلك ويعتريني خجل عدم الحلم بكل الأشياء التي نعكف اليوم على تحويلها إلى حقائق عندما بدأنا –وكانت أحلامناً واسعة (تصفيق).

قلت لكم قبل قليل بأنه ما يزال هناك عنصراً حاسماً ثالثاُ؛ فليس الوعي وحده، ليست المعارف وحدها، إنما هناك أيضاً أمر جوهري حين يحلم المرء بتغيرات في العالم.

التاريخ القصير الذي كلمتكم عنه مليء بالحالمين الذين لم يشهدوا تحقق أحلامهم، لأنه بالإضافة للأحلام والوعي والرغبة والإرادة الحسنة يحتاج الأمر للشروط الموضوعية، والشروط الموضوعية يأتي بها التاريخ، ولن تكون هناك تغيرات عميقة، ولا هي حدثت أبداً، لا تسبقها أزمات حادة. هنا يكمن لب المشكلة.

لم تنشأ الحلول الكبيرة إلا من الأزمات الكبيرة؛ وأقول ذلك للذين كانوا يتساءلون ما العمل، والاستعداد هو أحدها، زرع الأفكار، زرعي الوعي. في تفاؤل الذين نعتقد بأننا انطلقنا من حقائق واقعية، لا يخيفنا ولا حتى أن تأتي "منطقة تجارة حرة خاصة بالأمريكتين" وتبتلع أمريكا اللاتينية والكاريبي كاملين، لأن ذلك يعود على ذاكرتي بحادث إنجيلي، فقد كان عليّ أن أدرس سنوياً "التاريخ المقدس"، وهو الاسم الذي كانوا يطلقونه على العهدين القديم والجديد، ويحكي عن ذلك النبي الذي اسمه يونان، إذا لم تخنّي الذاكرة، الذي ابتلعه حوت؛ ولكن الحوت لم يستطع هضمه فخرج كاملاً من أحشائه.

درجة أنني أؤمن بالحقائق وأؤمن بأنه في المستقبل القريب، حتى لو ابتلعتنا، سنخرج نحن الخمسمائة مليون أمريكي لاتيني وكاريبي من أحشاء حوت لن يستطيع أبداً هضمنا (تصفيق).

وعليه فإنه لا يمكننا أن نشعر بأي خوف، يجب الإيمان بقوانين التاريخ، التي نعرفها لأننا أمعنّا بها، والتي نعرفها بفعل الاستنتاجات، ونعرفها بفعل دراسة ومراقبة الوقائع. لقد سبق وقيل بأن مشكلة النظام هي بكل بساطة أنه لا يستطيع البقاء، وما لا يستطيع البقاء مصيره أن ينهار.

في هذا المكان نفسه، عندما كنا مجتمعين في منتدى ساو باولو، قلت للأرجنتينيين من على هذا المنبر: لا تقلقوا، لا تفكروا كثيراً بالأسلوب؛ لا تدعوا عزيمتكم تثبط بحثاً عن أسلوب، فلا حاجة لذلك. هذه الحكومة ستنهار وحدها، لا حاجة ولا حتى للنفخ عليها (ضحك)، هذا ما قلته لهم. ومنذ ما قبل الموعد المذكور كنت أؤكد ذلك، لأننا كنا قد توقعنا هذه الحقائق في تحليلاتنا ومناقشاتنا. تمت دراسة تاريخ عام 1929، وماذا كان عليه الفارق بين 1929 وما يحدث اليوم؛ حين انتفخت البورصات أكثر من أي وقت مضى؛ ما الذي كان يضمن عدم غرق هذا البلد وعدم انفجار البالون، بأسوأ النتائج، ذلك أن الدور الذي كان يشغله هذا البلد في العالم كان أكبر، وفي الوقت الذي يستثمر فيه الأمريكيون 50 بالمائة من أموالهم في هذه الأسهم، التي انتفخت لدرجة أن بعضها الذي كلف ألف دولار أصبح يعادل بعد ثماني سنوات ثمانية آلاف دولار، أي أنه كان قد تضاعف 800 مرة. إنه عمل خارج عن المنطق، جنون، لم يكن لذلك أن يدوم؛ لم يكن يعرف أحد متى ستبدأ وكيف ستبدأ؛ ولكن بدئها كان أمراً مؤكداً، وبدون العمل الإرهابي، فما فعله العمل الإرهابي هو التعجيل في هذه العملية، وأنتم تعرفون ذلك تماماً.

وعليه فإنه لا يراودني أي شك. ولهذا بدأت كلامي بتذكّر الجهد المبذول حيال الديون في عام 1985. غير أن النظام تمكّن من كسب الوقت من أجل اختراع صيغ، وسندات "بريدي" (Brady)، إلى آخره؛ كسباً للوقت. أكثر ما استطاع فعله هو كسب قليل من الوقت، حين كان ما يزال بوسعه فعل ذلك؛ ولكن لم يعد أمامه الكثير من الوقت لكي يكسب وقتاً. لقد بلغت الأمور من التعقيد أنه لم يعد أمامهم فرصاً، وكل حل يأتون به هو على حساب التفاقم في المستقبل. وهل سيقدون هدايا؟ لن يقدموا شيئاً هديّة. فأولئك الذين يديرون اقتصاد العالم هم أصوليون في هذا المجال.

ذكرت لكم شيئاً هم يجهلونه وربما يبدأون باستيعابه الآن، بأننا أمام أزمة، وكنت ذكرت لكم بأن أي من الحلول لم يجد مخرجاً من عقل أحد، أو من أفكار أحد، أو من اقتراحات أحد، عليه أن يأتي من الوقائع وأن يأتي من الأزمات.

ولا كذلك الأزمات تأتي عندما يريد الأشخاص؛ إنها تأتي، وفي بعض الأحيان تأتي بسرعة، لأن الأحداث أيضاً تسير بشكل متسارع. لا يعترفون بفكرة احتمال دوام الإمبراطورية الحالية السنوات التي دامتها الإمبراطورية الرومانية، أو التي دامتها لاحقاً الإمبراطورية الإنكليزية، أو دامتها إمبراطورية أخرى أو شبه إمبراطوريات. تجري الأحداث اليوم بسرعة متناهية، يمكن القول أنها تسير بسرعة الضوء تقريباً، بالسرعة التي يمكن بها القيام بعمليات بين طرف من العالم وطرفه الآخر خلال أجزاء من الثانية، أو الاتصال عبر الإنترنيت خلال أجزاء من الثانية. بهذه السرعة تسير الأحداث ولا يمكنها أن تسير بطريقة أخرى، وبهذه السرعة سار تطور العلوم والتقنية. والتاريخ يثبت ذلك.

بدون أن نذهب بعيداً، عندما نشأت الثورة الفرنسية لم يكن بإمكانها أن تنشأ لا قبل خمسين سنة ولا بعد خمسين سنة من ذلك الموعد. كان هناك حكماً ملكياً مطلقاً، أقدامه ثابتة تماماً هناك، وكان النظام الإقطاعي، هناك 10 أو 12 كتاباً لجوريس، لا أذكر عددها، تشرح بالتفصيل كل العادات والقوانين والنظم الإقطاعية التي كانت تجعل من المستحيل بقاء ذلك النظام. بل وأن المنظّرون بدأوا بالظهور مع أخذ الأزمة بالجلاء بوضوح؛ ولكن ليس المنظرين هم من أوجدها. إنما هم صاغوا أفكاراً ومبادئ، إلى آخره؛ ولكنه الجوع والوضع غير القابل للديمومة ما أدى إلى الثورة في تلك اللحظة بالضبط.

لم يكن أحد قد سمع بأسماء أولئك القادة المشهورين الذي ما كان لأسمائهم أن تُذكر أبداً لو لم تنفجر الأزمة، بل وأنه مع الأزمة، جاء الزعماء الرئيسيون لتلك الثورة، بعضهم من كنيسة، وآخرون من أسقفية، وكان آخرون برجوازيون أو مثقفين، ولكنهم جميعاً لامعين. أخذت رؤوسهم تسقط واحد بعد الآخر، جميع تقريباً كذلك: جيروندينوس، ياكوبينوس، دانتون، مارات، روبيسبير، المعتدلون منهم والراديكاليون، ثم جاء الانقلاب الذي قام به نابليون. ما كان لأحد أن يعرف أياً من تلك الشخصيات. من الواضح أن الأزمات لا تأت بتغييرات فقط، وإنما تأتي بزعماء، وتأتي بعناصر تقود أو تشارك، ولا تتكرر الأمور بنفس الطريقة في أي مكان آخر.

يجري الحديث هنا عن أولئك الذين ينظمون اللجان في القاعدة، أولئك الذين ينظمون مظاهرات الضرب على الطناجر، أولئك الذين ينظمون الاحتجاجات ويتصلون فيما بينهم عبر الإنترنيت، عن جماهير تتحرك بقوة هائلة ومدهشة. فالتغييرات لها من يقف وراءها أيضاً، كثيرون منكم هم أشخاص شبان، راكموا كمّاً من المعرفة، وقد أثبتوا ذلك هنا. الحقيقة أنها كانت مدهشة بالنسبة لي الطاولة المستديرة التي أقيمت لمعالجة الأزمة، وسوف نبث هذه الحلقة يوم الأحد.

كانوا اليوم سيقدمون برنامجاً، ولكن الأمر احتاج لتقديم برنامج آخر. الطاولة التي انعقدت يوم أمس لم يكن على أصحابها أن يعيدوا بثها تلفزيونياً، فأمكن بثها كاملة، سيتم بثها كاملة، بالعفوية التي تحدثوا بها هم؛ فكل هذا قد تم تصويره، وسنقوم ببثه. شعبنا آخذ بالتعلم في كل يوم. كانت الشروحات لامعة من قبل رجال هم بالفعل أصحاب موهبة، وتضلّع وخبرة. نحن نريد إصدار ملحق وسنفعل ذلك بطبعة ربما يصل عدد نسخاتها إلى 200 ألف، 300 ألف. فنحن لا نكتفي بجرعات صغيرة من الأشياء.

حول كتاب رامونيت، الذي كانت قد تمت مناقشته يوم الأحد مع ستة آلاف شخص في مسرح "كارل ماركس"، حيث تواجد طلاب كان لكثيرين منهم مشاركة هنا، من مدارس العمال الاجتماعيين وغيرها، ومن الأشخاص المشاركين في حملة مكافحة البعوض وضد أوكار انتشار حمى الضنك، كان هناك في ذلك المحفل ثلاثة آلاف من بين الستة آلاف طالب أعضاء الفرق الطلابية للعمل الاجتماعي، فبما أن هذه الدورات جديدة، ليس لدينا إلا ألف خريج، والتحق الآن سبعة آلاف، وقد استخدمنا قوة الطلاب الجامعيين.

قام ستة آلاف منهم، بين الخامس عشر من تموز/يوليو والخامس من آب/أغسطس، خلال 16 يوماً، بزيارة 505 آلاف عائلة في عاصمة الجمهورية، وجمعوا آرائها ووجهات نظرها حول مختلف أنواع المواضيع، ودوّنوا كل شيء تاركين مساحة فارغة لكي تعبر العائلات التي زاروها عن أي موضوع تودّ إدراجه بين المواضيع المطروحة البحث –وهي أكثر من 30 موضوعاً-، واحتاج 300 جهاز كمبيوتر، قام بإدارتها الطلاب أنفسهم، لأربعة أشهر لفرز المعطيات. أي أنه يتم جمع قدراً كبيراً من المعلومات ومن المعارف لا يمكن الحصول عليه إلا بهذه الطريقة.

يمكنني أن أذكر واقعة أخرى، المسألة هي أن البلاد تتمتع بقوة: الشبان، الطلاب، العمال، النساء المنظَّمات والموحَّدات، الذين يمكن بهم صنع أي شيء. تم وزن مليونين و 200 ألف طفل من صفر إلى 15 سنة، لرؤية كل الذين يمكن أن يكونوا دون مستوى القياس والوزن المناسبين لعمره، في سبيل القيام بالمعاملة الفردية، وهذا أمر معروف، لكل واحد من الذين يحتاجون لمعاملة أو مساعدة خاصة ومعرفة ما هي العوامل التي تؤثر في عدم تلقي طفل ما الغذاء اللازم خلال السنوات الثلاث الأولى من عمره، الأمر الذي من شأنه أن يتسبب في دخول الطفل إلى مرحلة الروضة بقدرة ذهنية أقل من التي يتمتع بها طفل تلقى الغذاء بالشكل الملائم. لأنه، في الحقيقة، يجب الاعتناء بالطفل وهو في أحشاء أمه.

يجب ألا يعتمد ذلك على ما إذا كان عنده دخلاً أكبر أو أقل من آخر، أو ما إذا كان أبوي أحد أو آخر يتمتعان بثقافة أعلى ومعارف أكبر، أو ما إذا كان عند بعضهم ثلاث غرف في شقة ويعيش آخرون ستة في غرفة واحدة، فنحن لن ننتظر حتى يتم بناء كذا مائة ألف أو مليون مسكن لكي نغير الظروف المادية للمسكن. مسألة الهامشية ليست مجرد العيش في حي من تلك الأحياء التي يتم ارتجالها، إنما هناك أمور أخرى. لا يتم التغيير ببناء عمارات، وإنما ببرامج من النوع الذي نوجده نحن، والتي تتمتع بأهمية حاسمة في البحث عن العدالة الممكنة التي لم تكن موجودة كلياً، ولكنها ستوجد وستوجد في القريب العاجل، أستطيع أن أؤكد لكم ذلك.

في العام القادم، يا فيرّير، نستطيع إعداد كتيّب وأن نحدثكم عن كل هذه البرامج، التي أنجزنا بعضها، بحد أدنى من الموارد. المهم هو الإرادة في صنع الأشياء؛ ولكن من أجل التمكن من صنعها، يجب بكل بساطة التمتع بالقوة اللازمة لذلك، والقوة تكمن هنا، في الجماهير. أقول هذا لأولئك الذي كان يراودهم الشك.

إذا أردتم لحظة أخرى من التاريخ، حسناً، في عام 17 من القرن الماضي تم توفير الظروف لثورة اجتماعية كبرى، الثورة الروسية. قبل ذلك كانت قد نشأت الثورة المكسيكية، بعد بورفيريو دياز. في تلك الظروف العارمة نشبت الأزمة، وجميع قادة تلك الثورة نشأوا مع الأزمة.

وقبل ذلك أيضاً، في هايتي، قامت الثورة الفرنسية نفسها بثورة اجتماعية –لا أقول اشتراكية-، ذلك أنه كان يستحيل بقاء نظام فيه 300 ألف عبد يسيطر عليهم 30 ألف مستعمر فرنسي، فلم يكن بإمكان ذلك أن يدوم أكثر بكثير، وفي أحد الأيام هوى كل ذلك ونشأ من بين العبيد المتمردين القادة الخاصين بهم. لم يكن أحد يعرف من هو توساين لوفيرتور أو الباقين. والثلاثين ألف جندي، ومعهم أحد ألمع قادة جيش نابليون الشهير، لم يتمكنوا من سحق ثورة العبيد.

كان لهذا عواقب كبيرة، لأنه جاء مستعمرون كثيرون إلى جزيرتنا وتحولت كوبا إلى مجتمع رق، منتجة للبن أولاً والقصب فيما بعد، وكان فيها مواليد كوبا أصحاب الأراضي التي ورثوها عن مستعمريهم الأوائل، في حين أن الإسبان كانوا يحتكرون التجارة والإدارة والأمن العام، وكل ذلك على أساس فلسفات ومعتقدات ومبادئ كانت تبدو غير قابلة للتغيير.

استقلال أمريكا بحد ذاته لم ينشأ إلا عندما حدثت أزمة كبرى. كان لها روّادها، بعض ممن كانوا قد وزعوا بيانات حقوق الإنسان، وتكلموا عن الحرية والمساواة والأخاء، التي تسري فعلياً بعد في أي بلد على وجه الأرض.

كانت الأفكار المَلَكية في هذا الجزء من القارة ما تزال قوية بعد. حتى أنه عندما تم احتلال إسبانيا على يد جيش نابليون الشهير قاموا باستبدال بوربون ووضعوا مكانه أحد أشقاء نابليون، فتمرد الشعب الإسباني.

المجموعات الحاكمة الأولى التي نشأت في المستعمرات الإسبانية في هذا الجزء من القارة كانت مجموعات تستجيب قبل كل شيء إلى شعور بالوفاء تجاه إسبانيا، إلا في بعض الحالات الاستثنائية كبوليفار وغيره في فنزويلا، هناك حيث كان قد تحرك ميراندا، الذي كان قد شارك أيضاً في الكفاح من أجل استقلال الولايات المتحدة وفي معارك الثورة، وهو أول رئيس تم تعيينه هناك. تحولت النضالات إلى ثورات من أجل الاستقلال، على مدى أكثر من 15 سنة، حتى الطلقات الأخيرة من معركة أياكوتشو.

ما كان لسوكري ولا لبوليفار ولا لأي من تلك الشخصيات أن يظهر في صفحات التاريخ قبل عشرين سنة أو بعد عشرين أو ثلاثين سنة من ذلك.

حروب الاستقلال التي خضناها نحن نفسها نشأت بذات الطريقة، في اللحظة الملائمة. العوامل الذاتية يمكن أن تتقدم أو تتأخر؛ ولكنها تنشأ، وتتطور، ويمكن للعوامل الذاتية أن تؤثر بشكل حاسم. يمكن لثورة كالثورة البلشفية أن تنتهي إلى ما انتهت إليه، رغم أنه تم القيام بها. وأنا أتفق كلياً مع حقيقة أنه عندما لم تحدث الثورة المتوقعة في جميع البلدان الصناعية، لم يكن ذلك دافعاً لاستسلام الثوار، فقرروا بناء الاشتراكية في بلد واحد، الأمر الذي كان في تناقض مع نظرية ماركس بالذات، ولكنهم لم يترددوا بفعل ذلك.

يمكن للمرء أن يتحدث عن أشياء كثيرة، بل وعن بعض وجهات النظر والآراء. عندما كان بالإمكان قلب ميزان القوى في العالم ما منع ذلك هو عوامل ذاتية. وفي نهاية المطاف نحن أيضاً قمنا بالثورة في بلد واحد، هنا، بين كل بلدان أمريكا اللاتينية، حيث، وباستثناء المكسيك، كل الباقين الذين يسمون حكومات، ويجب استخدام هذا التعبير، انضموا إلى الولايات المتحدة ضد كوبا. في بعض الأحيان نحمّل الحكومات مسؤولية المشكلات، في الوقت الذي لم يعد فيه لا الاستقلال ولا الحكومات موجودين، فيوماً بعد يوم تتقلص سلطتها إلى الحد الأدنى. الأحزاب السياسية في قارتنا فقدت مصداقيتها كلياً، تعرضت للتدمير على يد النظام السياسي والاقتصادي القائم، منذ ما قبل ذلك بكثير.

لقد مر 200 سنة تقريباً على كفاحنا الأول من أجل الاستقلال، وماذا بدّلنا؟ ماذا حدث للهنود الحمر؟ ماذا حدث للمتحدرين من العبيد؟ بل وماذا حدث للمتحدّرين من المستعمرين أنفسهم، أو الخلاسيين وكل الباقين؟ يعرف العالم ماذا يحدث لهم، كما يعرف نسبة الوفيات بين الأطفال ومستوى الأمية والفقر والبطالة وكل المآسي التي ذكرتموها هنا؛ لا أحد يجهل ذلك.

نحن نعرف تماماً في أي ظروف صنعنا الثورة. وبالمناسبة، كان مفيداً جداً بالنسبة إلينا في السنوات الأولى وجود هذا المعسكر الاشتراكي، وجود اشتراكية، لن نقول فعلياً، لنقل وهمياً، لأن الحال ليس سواء بين ما هو محلي وما هو مستورد؛ ليس الحال سواء بين عملية سياسية، ثورة عبر التلقيح الاصطناعي، أو عبر الاستنساخ، وما حصل في الواقع هو استنساخ إلى حد ما لتجربة بلد قفز من النظام الإقطاعي إلى الاشتراكية، وكان فيه حين صنع الثورة 80 بالمائة من الفلاحين جاهلين؛ حفنة من البروليتاريين في أقل بلدان أوروبا تقدماً صناعياً اتسعت رقعته، كمحصلة للحرب العالمية الثانية، لتشمل المناطق الزراعية، وكان الأكثر تخلفاً في أوروبا.

وصلنا إلى الحقبة التي خرجت فيها الولايات المتحدة من هذه الحرب الثانية كقوة لا تنثني، بصناعة لم يمسها أذى وبثمانين بالمائة من ذهب العالم، سمح لها بأن تفرض علينا معاهدة بريتون وودز الشهيرة، إلى أن اختلست وبذّرت ثلثي هذا الذهب، وعندما لم يبقَ لديها إلا عشرة آلاف مليون أونصة تروي، بقيمتها المعروفة البالغة 35 دولاراً، وآلية تضمن استقرار هذا السعر، وذلك من خلال شراء الذهب عندما يفيض وبيعه عندما يندر. عملت كآلة مضبوطة ودقيقة، حتى بقي لديها بعد حرب فيتنام، 500 ألف مليون منفقة بدون ضرائب، ثلث الذهب الأصلي وأُلغي الذهب كمقياس. تم استبدال الذهب بالورق، بالأوراق النقدية التي تطبعها وزارة المال أو الاحتياط الفدرالي، ومنذ ذلك الحين وهم يغطّون عجزهم الهائل، ديون داخلية تضاعفت خمس مرات لاحقاً خلال سنوات قليلة.

إنهم يشترون سلعنا وخدماتنا بأوراق؛ وبأوراق يحافظون على عجز بمقدار 400 ألف مليون دولار، بينما يُحظر علينا نحن سنتاً واحداً فوق الصفر: "أغلقوا مدارس، أغلقوا مستشفيات، ألقوا بأناس إلى الجوع، إلى الشارع، إلى البطالة". نعرف هذا لأنه ما يقولوه لنا كل الأطباء والمعلمين والأساتذة الذين يشاركون باستمرار في اجتماعات ويروون مآسيهم في أمريكا اللاتينية.

هذه هي الأعراف السائدة، قانون المحقان، كما يقال هنا. وبالإضافة للتسديد لنا بورق، يرغموننا على أن نبيعهم مواردنا الطبيعية وصناعاتنا؛ وفي بعض الأماكن حتى القطار، المتنزهات، الشوارع، الطرق، إلى آخره، إلى آخره.

صفر عجز. وماذا يهمهم؟ لا شيء من هذا له معنى، لا شيء من هذا يقوم على منطق، ولا شيء من هذا له مبرر، إلا مبرر ومنطق القوة، السلطة في كل الحقول التي تم الحديث عنها هنا، وإن لم يكن هنا، فإنه في لقاء رامونيت عندما قدم كتابه "الدعاية الصامتة".

ويشير هو أيضاً في كتابه إلى ظواهر بالغة الأهمية. كنا سنقوم بطبعة قوامها عشرة آلاف نسخة، وخلال 24 استبدلناها بطبعة مؤلفة من 100 ألف نسخة، لأن فيه أفكار بالغة الأهمية، مع إضافة من الأشهر الأخيرة، وهو أمر لم يكن بالوسع طرحه قبل الحادي عشر من أيلول/سبتمبر.

كان كتابه يقوم على أساس السلطة الهائلة عند جيراننا في الشمال –لن أسميها إمبراطورية دائماً، لأنني لا أريد أن يتم الخلط بين مفهوم النظام ومفهوم الذين يقودون ذلك البلد وبين مفهومنا عن الشعب الأمريكي؛ وكلما تمكنت، أتفادى وضع كل شيء في سلة واحدة.

ينطلق رامونيت من الدراسة العميقة لأثر كل هذه الوسائل. وقد سبق له وأن نبهنا من العدوان الثقافي الهائل الذي كنا قد ذهبنا ضحية له، ومن تدمير هوياتنا الوطنية.

قبل سنتين ونصف السنة كان هذا العنصر المركزي لمؤتمر عقده اتحاد الكتاب والفنانين الكوبيين، وهو أمر اتفق فيه مائة بالمائة من فنانينا ومثقفينا: الدفاع عن الهوية الوطنية.

واصل تطوير هذه الفكرة نفسها، وقد تمكن من بلورتها في كتاب يتمتع برأينا بقيمة كبيرة؛ ولكنها سادت في نظريته –ولم يكن بالوسع أن يكون غير ذلك- التأكيد بأن القوة الرئيسية للسيطرة الإمبراطورية هي بالذات احتكار وسائل اتصالاتها الهائلة واستخدامها، احتكارها لوسائلها. ولكن اعتباراً من الحادي عشر من أيلول/سبتمبر كان من الضروري إدراج مفهوم شرطي الأمن –كما أسماه هو-، بكلمتين: العامل العسكري.

وفي طرحه، وحتى في العنوان الذي وضعه لإحدى المحاضرات: "الاستبدادية اللذيذة"، كان عليه أن يدرج العامل العسكري. هذا ما كنت سأقوله لكم وقد أعلنت لكم عنه.

إلى ماذا تستجيب هذه النفقات العسكرية الهائلة، هل للنية على حقن الاقتصاد بالمال يا ترى؟ برأيي أنه لا. هذه الإدارة هي أيضاً كينزية على طريقتها، حقن التداول بالأموال، على أمل استعادة النمو من جديد، لمدة وجيزة، هذا إذا حققوا ذلك؛ معادلتهم الرئيسية هي من خلال تخفيض الكثير من الضرائب، إلغائها عملياً. لقد تخلوا عملياً عن الخمسة ملايين مليون دولار التي حلموا بأن تتم مراكمتها خلال عشر سنوات كمحصلة لفائض الإنتاج؛ أصبحوا يعرفون الآن بأنه ليس كذلك، لديهم الآن عجزاً من جديد.

حلم أمريكيون كثيرون بأن ذلك الفائض سيتم استثماره في تأمين العناية الصحية، وفي تحسين المدارس، وفي تأمين بدل التقاعد لذلك العدد الهائل من المواطنين الأمريكيين الذين يتقاعدون، الجيل الذي أتى بعد الحرب العالمية الثانية؛ كل هذه الأحلام هوت، وبالإضافة لذلك، فإن تخفيض الضرائب وإلغائها يعود بفائدة أكبر بكثير على الذين عندهم قدراً أكبر من المال.

هل حقن المال في بلد فقد مواطنوه عادة الادّخار، حيث الادخار من الدخول الشخصية هو دون الصفر، له أي معنى؟ ولكنهم يريدون رفع الاقتصاد عبر حقن المال.

رفع النفقات العسكرية هو أدنى بكثير من حقن المال المتداوَل عن طريق خفض الضرائب، إنها موارد ومزيداً من الموارد اليائسة، بنفس الطريقة التي وصل الأمر باليابانيين بها إلى تقليص نسبة الفائدة إلى صفر من أجل دفع الاستثمارات، والأمريكيون قلصوها إلى 1.75 بالمائة، أدنى نسبة أتذكرها، ولا أدرى إن بلغت ما هو أدنى من ذلك في فترة ما.

إذن، لماذا، لماذا موازنة عسكرية هائلة؟ لماذا استثمارات هائلة في تكنولوجيات جديدة؟ هل أنهم بدأوا يدركون بأن العالم يصبح يوماً بعد يوم أقل قدرة على أن يُحكم، وبأنه لا يمكنه أن يعتاش فقط من سحر إعلاناتهم التجارية، وبأن الأمر يحتاج لقوة، يحتاج لمزيد من حاملات الطائرات والمزيد من الطائرات وأكثرها حداثة، وأنه يحتاج لإعلان حرب عالمية وتهديد ثمانين بلداً –لأنهم يعتبرون بأنه ثمانين عدد البلدان التي يمكن أن تكون محلاً لهجماتهم.

يمكن للبعض أن يقول، ألا تشعرون بالقلق أنتم؟ نحن البلد الأكثر طمأنينة في العالم، لأننا منذ 43 سنة ونحن مهددين؛ كنا على وشك الاندثار، نعم الاندثار، بدنياً، جميعاً، دون أن يتردد الشعب.

أنا لا أتذكر واحداً من أبناء وطننا انهارت معنوياته أو كان مذعوراً في عام 1962. نعم، أتذكر شعباً مستاءً، عندما قدم حليفنا في ذلك الوقت، وبدون أن يتشاور حتى مع كوبا، تنازلات وأجرى تسويات. هم يعرفون جيداً بأن هذا الشعب لا يمكن إخافته، سواء أدرجونا في القائمة أم لا. لا يتصورون إلى أي مدى يهمنا إن استثنونا أم لا؛ لأن هناك مشكلة يجب حلها قبل ذلك، وهي إن كنا نحن نستثني الولايات المتحدة –مع أن ليس جميع حكوماتها كانت سواء- من قائمة البلدان الإرهابية.

هم آلاف أبناء وطننا الذين فقدوا حياتهم ضحية الحرب القذرة والاعتداءات من كل نوع، ضحية طائرات مدنية كوبية تم تفجيرها في الجو، وقنابل تم وضعها في فنادقنا، وخططاً ومزيداً من الخطط التي لا أريد وصفها بدقة، ونستطيع فعل ذلك إذا احتاج الأمر.

يوجد اليوم أسلوب جديد، فلم يعد الوزراء وحدهم، والمتحدثون؛ وإنما أصبح سفراء الولايات المتحدة أيضاً يرسمون نماذج، يتكلمون. ليس ثمة حملة انتخابية في أي من البلدان الأمريكية اللاتينية "المستقلة جداً" لا يحشر السفير أنفه فيها ويلقي خطاباً؛ إذا كان في نيكاراغوا، على سبيل المثال، الخطاب الكبير للسفير الكبير. في السابق كانوا ولاة رومانيين متكتمين؛ واليوم أصبحوا قناصل لا يوجد عندهم أي وجل في الإعراب عن المفضلين إليهم وعن ورغباتهم، وبأي لهجة، وبأي طريقة!

لاحظوا كيف هي عليه الأمور، أنه هنا، حيث لا توجد لهم سفارة، وإنما مجرد مكتب رعاية مصالح، أرادوا تطبيق ذات الأسلوب، الإدلاء بتصريحات يسائلون فيها الحكومة، وإن كان ينبغي استثنائنا أم لا من قائمة البلدان الإرهابية. إنه كأحدٍ في حفرة يقول لأحد آخر يعلو عليه ومعه مائة ضعف الحق والأخلاق: "أخرجني من الحفرة وسأنقذ حياتك".

هذه الأساليب مع الشعب الكوبي لا قيمة لها على الإطلاق، لأنه شعب وفيّ لمبادئه، شعب واعي، مثقف، متّحد، ذو أخلاق؛ فلا بالأكاذيب ولا بالتهديد يمكن إخافته أبداً.

يمكن لهذا البلد أن يختفي عن وجه الأرض، ولكن لن يكون بالإمكان قهره، لن يكون بالإمكان السيطرة عليه، ولن يكون بالإمكان غزوه.

لقد عشنا نحن خدّاماً لأفكارنا ومبادئنا وأخلاقنا. هذا ما كانت عليه حياتنا وما هي عليه حياة كل الشبان وملايين الشبان كالذين شاهدتموهم على الطرف الأيمن؛ إنها حياة شعبنا، إنها حياة أطفالنا الذين سيكونون على مستوى أعلى من الثقافة منّا ما لا يقبل المقارنة، وأكثر تعلماً منّا، وسيكون لديهم من المعارف عن العالم أكثر منّا، وعندهم ثقة بلا حدود بشعبهم، ثقة بلا حدود بالأفكار، وثقة بلا حدود بالثورة. هذا هو الوضع الراهن لبلدنا وهذا هو ردّنا، فلا ينبغي على أحد أن يخطئ.

ما هو هذا أمر التهديد باستخدام القوات العسكرية؟، ضد قائمة يقولون بأنها تصل إلى ثمانين بلداً. أين أصبحت فكرة وجود منظمة أمم متحدة؟ أين ستصبح الأعراف القانونية لهذه المؤسسة؟ أين أصبحت المبادئ القانونية والمبادئ الأخلاقية؟

عندما يتساءل المرء لماذا كل هذا، يبدو أمراً خارج عن المنطق، يبدو بأنه لا تفسير له، ذلك أنه أكثر من هولهم أو خوفهم من الإرهاب الحقيقي، إنما هم يخافون تمرد الشعوب، يخافون حركات الوعي والرأي التي كان لها أن خاضت معارك كبرى في أماكن خالدة، وأصبحت تمنعها من الاجتماع تقريباً، ولهذا فإن ردة فعل رعاة هذه السياسة غاضبة ومتعجرفة، ليصل بهم الأمر للتعامل الفظ مع حلفائهم ذاتهم، ويداعبون فكرة استخدام قوة جبارة، همجية، عمياء، لا تُقهر ظاهرياً، من أجل زرع الذعر والهول عند كل شعوب الأرض.

نتيجة ذلك ستكون تضاعف المقاومة، تضاعف النبذ، تضاعف الاحتجاج، وتعمق الاستياء عند هذا الجنس المهدّد ليس فقط من قبل أسوأ طرق العبودية والاستعمار التي عرفها التاريخ، وإنما هو مهدد بقاؤه بحد ذاته. هذا الوعي هو الذي سيشكل دافعاً لأشخاص كثيرين من الطبقات الوسطى في البلدان الصناعية، الذين يتمتعون يوماً بعد يوم بمزيد من المعارف عن المخاطر المحدّقة بالطبيعة، المحدّقة بالحياة، حياة أبنائهم وحياة أحفادهم.

الكل يعرف جميع المعطيات، لا حاجة لتكرارها، فيما يتعلق بما يحدث لطبقة الأوزون، وإزاء تلوث المناخ، وتسمم البحار، وندرة المياه الصالحة للشرب، إلى آخره، إلى آخره.

الكاليفورني، أو بعض منكم، تحدث عن كاليفورنيا بدون ماء، أو بمشكلات مائية في ينابيع الأعماق. لا يحدث هذا مع كاليفورنيا وحدها، إنه يحدث في غواناخواتو أيضاً؛ رئيس المكسيك الحالي نفسه، عندما كان حاكماً وزار بلدنا، شرح لي كيف أن مياه الأعماق التي كانت تتواجد على عمق 12 متراً هي اليوم على عمق 400 متر، وليس هناك من مصدر يغذّيها. وعندما سألته إن لم يكن بوسعهم الحقن من المياه العادية التي تسقط، أجاب: "كلها مليئة بالمنتجات الكيماوية"، وما كان يقوم به انطلاقاً من وجهة نظر جيدة هو الري من المياه التي تتوفر في أماكن الري من أجل توفير المياه.

هناك مشكلات جسيمة في الشرق الأوسط تهدد بنزاعات مستقبلية، وأي كان يدرك ذلك. تنمو البشرية ثمانين مليون نفراً في السنة. بين عامي 1981 و 200، وهما موعدين انعقدت فيهما مؤتمرات للاتحاد البرلماني العالمي، خلال عشرين سنة فقط، نما عدد سكان العالم 1400 نسمة، أي أكثر من العدد الذي كان قد نماه على مدى تاريخ البشرية، منذ أن نشأ الجنس البشري وحتى بدايات القرن الماضي، الذي انتهى قبل فترة وجيزة جداً؛ هذه الظاهرة لا يمكن إيقافها، وتضاف إلى التآكل وطائفة أخرى من المشكلات التي يعرفها ويدركها الجميع.

يمكن القول أن هذا الكفاح ضد العولمة النيوليبرالية هو قضية مشتركة بين كل شعوب البشرية، التي لا يمكنها أن تنظر بعين الرضى إلى إلغاء معاهدة كيوتو، التي تعني أملاً؛ ولا يمكنها أن تعرف لماذا يتم إنتاج دروع نووية شاملة، تُنفق فيها أموالاً طائلة، في الوقت الذي يقولون فيه بأن الحرب الباردة قد انتهت، وفي الوقت الذي لم يعد الخصم فيه قوة عظمى منذ زمن طويل، وتبلغ موازناته القومية أقل من الموازنة العسكرية للولايات المتحدة.

من تراهم سيجعلون يظن بأن الكوريين سينتجون صاروخاً، سلاحاً نووياً يمكنه أن يصل إلى الأراضي الأمريكية؟ إن هذا لا يصدقه أحد؛ ولا أن يصدّق بأنه يمكن لإيران أن تهدد الولايات المتحدة، فهذا لا يصدقه أحد. ربما كانوا هم يفكّرون بروسيا، التي تحتفظ بعدد من الصواريخ التي يمكنها الوصول إلى أراضي الولايات المتحدة. الحجج هي البلدان الأخرى التي يهددونها. إنهم يخلطون في هذا أيضاً باقي العوامل التي تحدثت عنها، التوجه نحو السيطرة الكاملة والمطلقة على كوكبنا. هذه هي اللحظة التي نعيشها، من وجهة نظرنا المتواضعة.

إذا لم أكن قد نظرت إلى الساعة قبل الآن فلأنني كنت خائفاً، وعلى كل حال، لم يعد هناك من مفر (ضحك). لقد تكلمت ثلاث ساعات؛ ولكنني لم أعكر رغيد نوم صديقنا (يشير إلى أحد المندوبين)، الذي نام بهناء (ضحك وتصفيق) والآن يستيقظ منتعشاً ومفعماً بالحيوية (ضحك)، ليستمتع بالكوكتيل الشهي الذي أعدته جمعية الاقتصاديين الكوبيين (ضحك وتصفيق).

ولا أقول شيئاً آخر غير أن النظام الاقتصادي والاجتماعي الحالي هو نظام غير قابل للديمومة، وأنه قد تم هنا المساهمة بأفكار كثيرة وأننا منهمكين في معركة أفكار. إنني على قناعة بأن هذا الاجتماع كان واحداً من الاجتماعات التي طُرح أكثر ما طُرح فيه من أفكار ووجهات نظر، بما يتفق مع كل ما يراه الجميع ويدركونه على نحو أكبر يوماً بعد يوم.

نشعر بالسعادة وعياً منّا لكوننا شاهدين على ما يبلغه الشلال الهائل من المعارف والذكاء الذي يتوفر لدينا نحن الخمسمائة مليون نسمة في أمريكانا اللاتينية –وربما أكثر بقليل- من نهر برافو وحتى باتاغونيه –على حد قول مارتيه. يا لها من ثروة هائلة من المعارف بلورتموها! وهذه بالذات هي الثروة التي لا يهم جارنا الجبار في الشمال أن يستوردها؛ يفضّل قتل ذكائنا على منحنا التأشيرات للدخول إلى الولايات المتحدة؛ نتمتع على الأقل بشلال كبير، رأسمال بشري من رجال الاقتصاد والمفكرين والرجال والنساء أصحاب المعارف اللازمة في هذه اللحظة.

لنودّع بعضنا مسلّحين بالقناعة؛ ولكن مسلّحين بشكل خاص بالثقة بمستقبلنا. سيكون بالإمكان هنا قول شيء مشابه للذي قاله سلفادور أليندي قبل مصرعه المجيد في قصر العملة: "في الأجل القريب قبل البعيد سيتغير العالم!"

حتى النصر دائماً!

(تصفيق حاد).