الخطاب الذي ألقاه السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي الكوبي ورئيس مجلسي الدولة والوزراء، القائد العام فيدل كاسترو روس، بمناسبة إحياء عيد ميلاد إليان غونزاليز والسنة الرابعة لبدء معركة الأفكار، وذلك في المدرسة الابتدائية "مارسيلو سالادو"، في كارديناس، في الخامس من كانون الأول/ديسمبر 2003، "عام الذكرى التاريخية المجيدة لمارتيه وثكنة ‘مونكادا‘".

 

أيها التلاميذ والمعلّمين والأقارب الأعزاء والمدعوين الكرام إلى هذا الحفل السعيد:

يجب أن تكون حنجرة المرء في حالة جيدة إذا أراد التكلم، أليس كذلك؟ وقد توجب عليّ أن أتكلم في الأيام القليلة الماضية عدداً لا يحصى من الساعات. وأنتم أطفال الابتدائية طلبتم مني الآن أن أتكلم. أتعرفون ما أنتم فاعلين، هل فكرتم بالأمر جيداً؟ وإذا ما خطبت بكم لمدة ساعتين..؟! (ضحك).

قولوا لي شيئاً: عمَّ تريدونني أن أحدّثكم؟ (أصوات مرتفعة تقول "عن كل شيء") عن كل شيء؟ لكنني لست أستاذاً في جغرافيا العالم (يطلب منه الأطفال أن يحدثهم عن شعوره أثناء زيارته للمدرسة) آه!، حسناً: إن هذا يجلب لي ذكريات كثيرة. كنت أفكّر بهذا الأمر قبل بضع دقائق: المرة الأولى التي أتيت بها إلى هذه المدرسة كانت قبل أربع سنوات ألا يوماً واحداً؛ أي أنه يوم غد يمر عليها أربع سنوات بالضبط.

وكنت أتذكر أيضاً أنه حين أتيت إلى هنا في ذلك اليوم، في السادس من كانون الأول/ديسمبر 1999، قبل أربع سنوات، أولئك الذين كانوا في الصف الأول أصبحوا الآن في الصف الخامس. لنرَ، هل يمكن للذين هم في الصف الخامس أن يرفعوا أصابعهم؟ (يرفعون أصابعهم). حسناً، أبناء الصفين الخامس والسادس كانوا حاضرين.

أبناء الصف الأول والثاني والثالث والرابع كان بعضهم في السادسة، السابعة، الثامنة، وآخرون في التاسعة. يوجد هنا كثيرون يتذكرون تلك الأيام.

يتواجد جميع المعلمين الذين كانوا يعملون في هذه المدرسة. يوجد أيضاً حوالي 16 شاباً لم يكونوا شباباً بعد آنذاك، كانوا يجتازون الصف الثاني عشر كطلاب مرحلة ثانوية.

أتعلمون لماذا يتواجد المعلمون الناشئين هنا؟ كان ذلك ثمرة الأحداث التي أدت إلى قيامي بالزيارة التي أجريتها لهذه المدرسة.

لقد سألتموني كيف هو عليه شعوري؛ أنا أقارن ذلك بما شعرت به في ذلك اليوم وكيف كان عليه شعور المعلّمين والعمال وكل الذين اجتمعنا عصر ذلك اليوم هنا. ربما ما كان بوسعنا أن نتصوّر آنذاك ولا حتى الأهمية التاريخية التي ستكتسبها تلك الأحداث، الوقائع التي حصلت لاحقاً التي من شأننا أن نقضي أياماً كاملة نتحدث عنها.

دموع، آلام، حزن هو ما كان يخيّم هنا. ولماذا؟ لأنه كان قد تم ارتكاب ظلماً كبيراً: أحد أطفال هذه المدرسة كان غائباً على نحو مؤلم. كان والده وأجداده وأقاربه يعيشون أياماً من العذاب المريع بفعل الأحداث التي أدت إلى غياب ذلك الطفل.

لم تكن المدرسة بالمظهر الذي تبدو به اليوم، مطليّة، مع مجموعة من التحسينات التي لم تكن متوفرة آنذاك. كانت مدرسة جيدة من حيث بنائها؛ ولكن، كان ينقصها الطلاء وغيره من الترتيبات الضرورية، كما هو حال مدارس أخرى كثيرة.

لن أشرح أنا لكم الآن لماذا لم تكن المدرسة بالجمال الذي تبدو به اليوم ولماذا لم تكن مدارس كثيرة كما هي عليه هذه المدرسة اليوم. لن أشرح لكم ذلك لأن هذا الأمر ستعرفونه أنتم يوماً ما، سوف تأخذون باكتشافه، ما كانت عليه الأسباب ولماذا يتلقى أطفالنا، أطفال كوبا، منذ سنوات عناية لم يسبق أن قُدِّمت أبداً في هذه القارة، أو في أي مكان آخر من العالم.

لقد سمعتم أنتم عن الثورة؛ لا أود أن أشرح لكم ماذا يعني ثورة، وإنما أن أروي عليكم بكل بساطة أنه عندما انتصرت هذه التي نسميها ثورة، أي عندما ألحقت الهزيمة بخصمها في صراع قاسي، كان يوجد في البلاد مئات الآلاف من الأطفال لم يكن عندهم مدارس؛ مليون شخص من الكبار ممن لا يعرفون القراءة ولا الكتابة؛ وملايين آخرون لم يكونوا يصلون إلى الصف السادس، والجزء الأكبر من الذين كانوا قد تمكنوا من الارتياد إلى مدرسة ما لا يصلون إلى الصف الثاني أو الثالث أو الرابع. ليس أكثر من واحد من بين كل عشرة كان يصل أو بالكاد يجتاز علوم الصف السادس.

الأغلبية الساحقة من الأطفال لم تكن تستطيع الوصول إلى الصف الخامس، الصف السادس، لأنهم كانوا أبناء عمال، أبناء فلاحين، أو أشخاص فقراء يحتاجهم أهلهم لكي يساعدوا العائلة في تأمين لقمة العيش، شراء المواد الغذائية، الملابس والأحذية، مع أن كثيرين منهم كانوا يسيرون حفاة أو يلبسون خرقاً، لأنهم، أكرر، كانوا فقراء.

حين كنت في سنّكم لم أرَ أبداً مدرسة كهذه، ولا أتكلم عن نوعيتها؛ لم أشهد أبداً عصر يوم كهذا؛ لم أرَ أبداً مثل هذه البهجة؛ لم أرَ أبداً مئات ومئات من الأطفال يصنعون ما صنعتموه أنتم هنا عصر هذا اليوم؛ لم أرَ أبداً حفلاً بالغ الجمال؛ لم أرَ أبداً كل هذا العدد من الأطفال يمثّلون بخفة روح لا حدود له؛ لم أرَ أبداً أساتذة كأستاذات الفن الثلاث اللواتي مررن من هنا، بل وهنّ معروفات وشهيرات، خريجات من مدارسنا للفنون.

في ذلك اليوم الذي بدأت فيه الثورة التي كلمتكم عنها، لم يكن يوجد شيء مشابه لما يمكننا أن نسميه هكذا: المعهد العالي للفنون. بالكاد كان بوسع المرء أن يحلم بأنه بعد ذلك بسنوات سيتواجد هنا أشخاص شباب، على درجة من الثقافة، على درجة من الأهلية، على درجة من القدرة، ربما لمدة ساعة، ساعة ونصف، يبعثون السعادة عند الجميع، عندكم، عند الأساتذة، عند العمال، عند المدعوّين، عند الصحافيين -فأنا متأكد من أنهم تمتعوا هم أيضاً بما حدث هنا-، وبالإضافة لذلك، عند مجموعة محل حب كبير من الأقارب، من الأشخاص الذين عانوا مظالم كبيرة تم ارتكابها بحق أقارب عزيزين عليهم: أبناء، آباء، أشقاء، بسبب ما كافحوه بلا هوادة على مدى هذه السنوات.

حين ذكرت أن طالباً من هذه المدرسة كان غائباً بسبب ارتكاب ظلم كبير، لا بد وأنكم أنتم، الأذكياء جداً، قد عرفتم ما أقصد، ولكنها ليست الحالة الوحيدة: طفل بريء له من العمر الآن خمس سنوات، وهو حاضر بينكم هذا اليوم، ذهب ضحية ظلم وحشي بالكاد يستطيع هو التنبه إليه. آلاف الأطفال ذهبوا ويذهبون ضحية مظالم كبيرة؛ آلاف الأطفال والأمهات وأشخاص آخرون لقوا حتفهم في هذه البحار نتيجة قانون نسميه نحن قانوناً قاتلاً، نشأ من أجل التضييق على الثورة وخنقها، من أجل تدمير الثورة، دون أن يهمّ ما يزرعه هذا القانون الهمجي من بكاء وحداد وحزن في قلب شعبنا العزيز والبطل.

وليس هو أيضاً العمل الوحشي الوحيد الذي يتم ارتكابه ضد شعبنا؛ إنه أحد الأعمال الشنيعة الكثيرة التي تم ارتكابها على مدى نحو نصف قرن المن الزمن، وما زال يتم ارتكابها.

في نفس هذا اليوم وصل من هناك بعض البرقيات الصحفية التي تتحدث عن مقتل عشرة مواطنين من بلدنا للتو غرقاً، بمن فيهم، حسب تأكيد البرقيات، سيدة وطفل، نتيجة هذا القانون القاتل ونتيجة سياسة أعتى قوة عرفها العالم أبداً، والتي حاولت على مدى 45 سنة سحق الثورة من دون أن تتمكن من تحقيق ذلك.

أقول بطلاً عندما أتكلم عن شعبنا لأن التاريخ لم يشهد أبداً خوض صراعاً يبلغ ما يبلغه هذا من انعدام التكافؤ، كما لم يتمكن أبداً بلد بهذا الحجم من الصغر من تحقيق نصر بكل هذا الحجم من الكبر في وجه اعتداءات قوة بهذا المستوى من الجبروت.

تحدثت هنا عن طفلة -لن أذكر اسمها- جاءت اليوم أيضاً إلى جانب أقارب آخرين لها ذهبوا ضحية أعمال وحشية أيضاً. لقد قالوا لي: "هل ترى تلك الطفلة؟ إنها فلانة، أصبحت في الخامسة من عمرها". الطفلة وأمها تتواجدان هنا. وسوف تندهشون حين أقول لكم بأن هذه الطفلة لم تتمكن من معرفة والدها، وأن هذه الأم ممنوعة من زيارة زوجها، الموجود هناك، في قلب الإمبراطورية الجبارة، بسبب قيامه بالواجب المقدس المتمثل في كشف مخططات تحيكها المافيا الإرهابية ضد شعبنا، وهي المافيا التي يتم تنظيمها وقيادتها والدفع لها في أراضي الولايات المتحدة، وهي التي وضعت القنابل في الفنادق، وهي تلك التي جاءت لتطلق النار على مراكز سياحية يعمل فيها آلاف المواطنين من كارديناس ومن ماتانزاس، في سبيل ضرب اقتصاد البلاد؛ وهي ذات العصابات التي قامت يوماً بتفجير طائرة كوبية وهي في الجو وعلى متنها 73 شخصاً؛ ذات عصابات الأشخاص القتلة الذين جنّدتهم ودرّبتهم وسلّحتهم تلك القوة العظمى لكي يقتلوا رجالاً ونساءً وأطفالاً من أبناء شعبنا، على ذات النحو الذي قامت به قوات مرتزقة، مدعومة بسفن بحرية وطائرات وأسلحة حديثة تابعة لحكومة الولايات المتحدة، بغزو بلدنا عبر شاطئ خيرون، أو خليج الخنازير، وهي أراضىٍ تابعة لمحافظة ماتانزاس هذه.

حسناً، بسبب محاولة الحصول على معلومات تساعد على كشف مخططات إرهابية واتقائها، يتواجد هناك خمسة أبطال حقيقيين، ذوي سلوك سيظلّ نموذجياً أبداً بالنسبة لشبابنا، مسجونين هناك، في معتقلات ذات إجراءات أمنية مشددة، تقع في ولايات مختلفة، معزول كل واحد منهم عن الآخر، لأنهم لا يريدون ولا حتى السماح لهم بأن يكونوا معاً، وقد حُكم على أحدهم بخمس عشرة سنة من السجن، وعلى آخر بتسع عشرة سنة، وعلى اثنين بالسجن المؤبد، وعلى أحدهم بمؤبّدين من السجن. لو عاش أي منهم مائة سنة أخرى، من شأنه أن يقضي المائة سنة في السجن؛ لو عاش 200 سنة، من شأنه أن يقضيها في السجن؛ ولو عاش ألف سنة، يكون ما يزال في السجن.

تعون أنتم مدى الألم الذي يبعثه مثل هذا الظلم. ولم أذكر هنا إلى القليل من المظالم الوحشية والتي لا مبرر لها.

غير أنه رغم الألم الذي يبعثه ذلك، فإنه لا يثبط عزيمتنا، لأننا منذ 45 سنة ونحن نخوض بكرامة، بشرف، بشجاعة وبصمود لا يتزحزح، الصراع مع حكومة هذه القوة العظمى، التي لم تفعل سوى حصاد الهزائم والهزائم ومزيداً من الهزائم في وجه كوبا.

في هذا اليوم بالذات، وللصدفة، جاءت برقية صحفية بأنباء عن مافيا رفيعة المستوى من موظفيـن لا وجل عندهم وكذّابين على نحو فظ. كانوا مجتمعين في البيت الأبيض -هكذا يسمونه-، وهو المكان الذي يجتمع فيه قادة الإمبراطورية، وذلك في لجنة تم تشكيلها ليس إلا منأجل استنباط وتطبيق طريقة لتصفية الثورة، وهذا بعد 45 سنة من المحاولات غير المجدية ومن الإخفاقات.

يستطيع أصحاب أوسع المعارف في القضايا السياسية أن يضحكوا، في الواقع، عند تصورهم لاستعراض تلك الزمرة المجتمعة هناك ومشاهدتهم لوكالات الأنباء تتحدث عن صيغ سحرية سوف يضعونها حيز التنفيذ من أجل تصفية الثورة. أعتقد أنه حتى الأصغرين الحاضرين هنا يستطيعون إدراك معنى ذلك.

إنني أؤكد لكم أن مثل هذه المخططات المثيرة لكل هذا القدر من الاشمئزاز إنما يعدّونها لسبب بسيط جداً، لأنهم لا يريدون عدالة، يكرهون العدالة، يكرهون استقلال الشعوب، يكرهون الحرية، يكرهون الفقراء، يتمنون أن يعيدوا من جديد ما كان يحلّ هنا، وما كان يحلّ هنا هو ما ذكرته لكم عندما بدأت كلامي.

إذا ذهبت إلى ذلك البلد ستجد أن هناك عشرات الآلاف من الأشخاص يعيشون تحت الجسور، ويلتحفون صحفاً. إذا ذهبتم إلى ذلك البلد ستجدون أنه بالرغم من كونه الأكثر جبروتاً وأكبر ثروة على وجه الأرض، يوجد فيه أربعون مليون شخصاً لا يتمتعون بحق الوصول إلى الصحة العامة، ملايين هم أميون، يعيشون في الأحياء الفقيرة حيث هم ضحايا التمييز بسبب لون البشرة أو لكونهم مهاجرين فارّين من الجوع، فيستغلّونهم بلا رحمة، حيث لا توجد أي روح من الإخاء والتضامن. لن يكون بإمكانك أبداً أن ترى مدرسة كهذه، ولو كان الأبوين فقيرين أو يعانيان أي إعاقة عقلية أو جسدية. لا يتمتعون ولن يكون بإمكانهم أن يتمتعوا أبداً بمدرسة كهذه، بمعلّم واحد مقابل كل عشرين تلميذ أو أقل.

الأطفال الذين يتعلمون في مدارس فاعلة هم أبناء أثرياء، فهم يذهبون إلى أفضلها، إلى أكثرها ترفاً، ويدفعون آلافاً وآلافاً من الدولارات سنوياً. ليس لديهم هم مدارس يكون التعليم فيها مجانياً لجميع الأطفال بدون استثناء؛ كما ليس لديهم عناية طبية، أو ليس لديهم مستشفيات وخدمة صحية مجانية لجميع الأطفال بدون استثناء. المستشفيات الجيدة هي حصراً لأولئك الأثرياء جداً، أثرياء جداً، الذين يستطيعون دفع أي مال لكي يتلقى أبناؤهم أو ذووهم رعاية طبية.

أنتم تعرفون بأنه ليس هناك شيئاً أكثر إثارة للاشمئزاز من الفوارق، من التمييز. بماذا ينعكس ذلك؟ سوف أقدم لكم معلومة. في ذلك البلد، في أي منطقة فقيرة منه، منطقة مهاجرين مكسيكيين أو هايتيين، أو من بلدان أمريكية لاتينية أخرى، بين كل ألف طفل يولدون يموت 20، 25، 30، بل وأكثر قبل بلوغهم السنة الأولى من عمرهم. إمكانية موت أبناء الأغنياء هي أدنى بثلاث أو أربع أو خمس مرات من إمكانية موت أبناء الفقراء.

في ذلك البلد الذي يتمتع بكل تلك الثروة، الذي ينفق آلاف الملايين من الدولارات سنوياً على الأسلحة من أجل التدمير والقتل، يموت عدد من الأطفال قبل بلوغهم السنة من العمر أكبر من عدد الذين يموتون في كوبا.

ولا في أي بلد من بلدان أمريكا اللاتينية يوجد تعليم مجاني لجميع الأطفال. لا يوجد في أي من بلدان أمريكا اللاتينية رعاية طبية لجميع الأطفال بالتساوي. في كوبا حدثت ثورة صنعت العدل، أحلّت المساواة والكرامة لجميع المواطنين بدون استثناء. إنه بلد لا يظهر فيه طفل واحد في السن المدرسي متسكعاً أو يطلب الصدقة في الشوارع؛ إنه بلد حيث مائة بالمائة من الأطفال في سنّكم، في المرحلة الابتدائية، يرتادون إلى المدرسة ويجتازون الصف السادس. إنه بلد، الوحيد في القارة، بما فيها الولايات المتحدة، حيث مائة بالمائة من الأطفال يلتحق بالصف السابع؛ وهو بلد ينجز فيه 99.5 % من الفتيان علوم الصف التاسع. إن هذا هو بلد يتلقى فيه مائة بالمائة عملياً من الأطفال دون الخمس سنوات فوائد خطة تعليمية من خلال برنامج "علِّم ابنك". إن هذا هو بلد، الوحيد في هذه القارة، حيث منذ أن يولد الطفل يحظى بإمكانية العيش سليماً، بصحة جيدة، بليتر من الحليب يومياً، الغذاء الضروري؛ وبالنسبة للدراسة، أن يتلقى العلم بدءاً من مرحلة الروضة وحتى التخرج حاملاً دكتوراه بالعلوم، بدون أن ينفق سنتاً واحداً.

أرى أصغر إناث الأطفال وهن في الصف الأول، وأودّ أن أسألهنّ سؤالاً صغيراً. كم تدفعن أنتن مقابل التعلّم في هذه المدرسة (تقلن له أن لا شيء). هل هناك من أحد يدفع سنتاً واحداً، هل يقبضون منكم شيئاً؟ (يجيبونه بالنفي).

هذا هو البلد الذي تريد تلك الإمبراطورية المتوحشة أن تدمره، تريده إخفاءه من الخريطة، لأن هذا البلد، هذا الشعب، أنتم، قد تحولتم إلى قدوة لكل بلدان أمريكا اللاتينية التي تعيش في مزيد من الفقر يوماً بعد يوم، وتعاني المزيد من المشكلات والأقل من الموارد للتعليم والصحة، وهم، الذين لا يريدون لحياة أشقائنا في أمريكا اللاتينية والكاريبي أن تتغير، ولا يريدون لحكومات هذه البلدان أن تتمكن من قول "لا!" لأي مطلب تمليه الإمبراطورية، لا يرغبون بوجود كوبا كنبراس، كنجمة.

إنني على ثقة مطلقة بأن باقي البلدان ستتغيّر، فبعضها قد شرع بإجراء تغييرات عميقة، ولهذا لا يريد أسياد العالم الحاليين أن يتحقق حلم مارتيه ذلك، ذلك القرار، حين عبّر عن استعداده للموت بلا وطن -الذي كان يفتقده بسبب احتلاله على يد الجيش الاستعماري الإسباني الجرّار- ولكن بدون سيّد، وأن يكون في قبره باقة من الزهور وراية. نتمتع نحن الكوبيون اليوم بوطن؛ إذا كان من واجبنا أن نموت دفاعاً عنه، من شأننا أن نموت بوطن وبدون سيّد (تصفيق وهتافات).

تلك المجموعة الصغيرة من السفهاء الذين اجتمعوا يوم أمس في البيت الأبيض سيموتون من المرارة، سيموتون من الفشل وسيموتون حتى من دهشتهم لرؤية الطريقة التي قاوم بها هذا البلد 45 سنة من الحصار، ويصرّون على قطع الوعد بأنهم سيتخذون مجموعة من الإجراءات السحرية من أجل إلحاق الهزيمة بالثورة الكوبية؛ أي تدمير الإنجاز الذي حققته الثورة خلال هذه السنوات الخمس وأربعين، تدمير هذه الحرية، تدمير هذه السعادة التي نراها اليوم، تدمير هذا المستقبل، تدمير هذه الثقافة المتزايدة والمدهشة بالنسبة لكل أطفال كوبا الذين يتمتعون وسيتمتعون يوماً بعد يوم وبمساواة مطلقة في فرص تطوير ذكائهم ومواهبهم وميولهم مهما طالت المسافة الزمنية.

لقد عاش هذا النضال من أجل استقلال ومستقبل شعبنا مراحل طويلة، على مدى نحو قرن منذ أن بدأت الحرب الأولى عام 1868 حتى المعركة الأخيرة التي حقق فيها استقلاله الكامل، في الأول من كانون الثاني/يناير 1959. وحقق حرية أكبر من أي سواها حققها أي شعب في العالم، لأن أي شعب في العالم لم يستطع أن يقول "لا!" على مدى 45 سنة؛ لم يكن أي شعب في العالم قادراً على تحدي هذه القوة العظمى الجبارة ويقول لها "لا!" خلال 45 سنة، وأن يقول لها "لا!" اليوم بقوة وثقة أكبر مما كانا عليه في اليوم الأول، وأن يكون مستعداً لأن يقول "لا!" لمائة سنة أخرى إن استلزم الأمر، مع أن الأمر لن يستلزم ذلك لمدة طويلة، لأن الذين يقودون ذلك الوحش النهم وغير القابل للديمومة يجدون اليوم معارضة متزايدة من قبل الشعوب، بل، وهذا هام جداً، من قبل الشعب الأمريكي نفسه، الذي أعلن أجداده بأن "الخالق" قد وهب جميع أبناء البشر حقوقاً مقدسة.

عندما نتحدث نحن عن إمبريالية معتدية، عن قوة عظمى إمبريالية، عن وحش، لا نقصد ولن نقصد أبداً الشعب الأمريكي. يتكون ذلك الشعب من عشرات الملايين، مئات الملايين، نحو 300 مليون شخص هم مثلكم: أطفال، معلمون، أمهات أو آباء، أشخاص يكتنزون مشاعر نبيلة، وليس بمقدور أحد أن يحمّلهم ذنب النظام الذي يعيشون فيه. ذلك النظام هو محصّلة التاريخ، محصّلة التطور التاريخي للمجتمع البشري الذي، وعلى مدى آلاف السنين من الظلم، خلّف، أفسد حتى النظام الإمبريالي الحالي المعولَم المفروض اليوم على الكوكب، وهو النظام الذي تضمحل قدرته على الديمومة يوماً بعد يوم.

من شأنكم أن تتساءلوا: ولماذا يوجد في بلدان أخرى من هذه القارة كل تلك الملايين من الأطفال بلا مدارس وكل تلك العشرات من ملايين الأطفال الفقراء؟ لماذا يموت عشرات كثيرة من الأطفال مقابل كل ألف يولدون سنوياً؟ لماذا يوجد كل ذلك الجوع؟ لماذا كل ذلك القدر من البؤس؟ لماذا كل ذلك التمييز؟ لماذا يوجد ذلك القدر من المشكلات الاجتماعية؟ لماذا يوجد أطفال حفاة؟ لماذا تظهر في كل يوم، في أي عاصمة، جيوش من الأطفال ينظفون زجاج السيارات، يمسحون الأحذية، يطلبون الصدقات، وهم في سنّ يجب أن يكونوا فيه في المدرسة، في الصف الخامس، السادس، السابع، الثامن؟ إنه، بكل بساطة، بسبب ذلك النظام الاستغلالي، نظام نهب الشعوب، لكي تستمتع أقلية ضيقة بامتيازات هائلة.

ومن شأنكم أن تتساءلون، وهل سيدوم ذلك إلى الأبد؟ أقول لكم بأنه لا، أنه يقصر يوماً بعد اليوم ما تبقى لنظام الهيمنة هذا من عمر، وأن الشعوب آخذة بوعي هذه المظالم، وأنها تزداد تمرداً يوماً بعد يوم أمامها وتطيح بحكومات، بتكرار متزايد، وأحياناً كثيرة بدون إطلاق عيار ناري واحد.

في بوليفيا، وهي بلد شقيق -وقد سمعتم أنتم ذكره كثيراً، لأن تشي [غيفارا] كافح هناك من أجل العدالة بالذات، من أجل تغيير الحياة البائسة لشعوب أمريكا اللاتينية-، سقطت حكومة بدون أن يطلقوا عليها عياراً واحداً. لقد أصبحت الحكومات تبلغ من الضعف وهي في وضع يبلغ من الحرج درجة أنها تسقط بنفخة واحدة.

هذه الظروف أدت في الأرجنتين إلى سقوط حكومتين متعاقبتين بنفخة واحدة. ونتيجة هذه المظالم، حدث في بلد شاسع، أن حقق قائد عمالي، عامل مخرطة، كان قد ترشح ثلاث مرات للرئاسة سابقاً، نصراً كبيراً، حين منحته أغلبية كبيرة من الشعب أصواتها. ولدينا مثال شعب فنزويلا الشقيق، حيث تجري عملية ثورية عميقة جداً.

هناك وضع من الاضطراب في جميع بلدان أمريكا اللاتينية تقريباً، باستخدام أساليب قطاع طرق يقومون بإعدادها هناك في البيت الأبيض من خلال حياكة الجرائم ضد كوبا؛ إنهم جزعون، ينتابهم الخوف، يائسون، أمام حقيقة أكثر من 500 مليون مواطن في هذه القارة يزداد تمردهم يوماً بعد يوم بسبب شروط الحياة التي يعيشونها ولا يمكن تحمّلها.

أستطيع أن أؤكد لكم بأن نظام النهب المتزايد هذا لن يكون بوسعه أن يعمّر طويلاً. وما الذي خطر على بال المافياالإمبريالية الإرهابية؟ حث الخطى، الاختراع، السعي على نحو مغامر لكيفية تمكنها من مسح مثال كوبا من الوجود، وهي نبراس الكرامة، الصمود الذي لا يتزحزح، النور الذي لا نطفئ من المقاومة البطولية.

لقد أصبح بلدنا اليوم يتمتع بأفضل نظام تعليمي بين جميع البلدان، فلديه مؤشر أكبر عدد من المعلمين مقابل عدد السكان وأقل عدد من التلاميذ مقابل عدد الصفوف. لم يعد يوجد مدرسة ابتدائية واحدة يبلغ فيها عدد الطلاب مقابل المعلم الواحد والصف الواحد أكثر من ثلاثين تلميذاً؛ لا يصل المعدّل الوطني إلى عشرين، وفي العاصمة نفسها، حيث كان يبلغ 37 قبل سنتين، هو اليوم 18. وكل هذا بالرغم من الفترة الخاصة ومن الحصار.

لدينا اليوم في المرحلة المتوسطة، حيث يجري تنفيذ عملية تربوية ما فوق العادية وجديدة، أستاذاً واحداً مقابل كل 15 تلميذ. كان النظام من قبل أستاذاً يعطي مادة واحدة لأربعين أو خمسين تلميذاً، ومن ثم يعطيها لعدة مجموعات أخرى مشابهة؛ يصل عددهم في النهاية إلى 200 أو 300 تلميذ. لم يكن هذا الأستاذ يعرف أسماء الطلاب، لأنه كان أمراً مستحيلاً؛ لم تكن له علاقات وطيدة مع الأهل، الذين بوسعهم أن يساهموا وهم يساهمون بشكل أكبر يوماً بعد يوم في تعليم أبنائهم في بلدنا.

يجري تطبيق مناهج جديدة، عبر استخدام أحدث التقنيات، التي تضاعف ما يكتسبه الطالب من معارف في كل سنة.

واليوم يبدأ أطفالنا بدراسة الكمبيوتر منذ مرحلة الروضة. أعتقد أنه عبر نظام الدوامين في كل أنحاء البلاد، سيضاعف أطفالنا اليوم في المرحلة الابتدائية معارفهم ثلاث مرات، وهم الذين يحتلون اليوم مكاناً رفيعاً في العالم من ناحية المعارف باللغة والرياضيات. وأبناء المرحلة المتوسطة اليوم، الذين لم يكن لديهم نظام الدوامين في السابق، سيضاعفون معارفهم أربع مرات.

إذا رويت عليكم شيئاً، ربما لا تصدّقونه. في أحيان كثيرة، في الساعات الأولى من فترة العصر، عندما يسمح لي الوقت، أشاهد الدروس عبر التلفزيون، وأتذكر ما كانوا يعلّموني إياه حين كنت في الصف الثاني، الثالث، الرابع، الخامس السادس، اللغة، الرياضيات، الجغرافيا، التاريخ، إلى آخره، وتدهشني الأمور التي يمكن تعلّمها خلال نصف ساعة من الزمن.

يوم أمس بالذات، في حوالي الساعة الثانية عصراً، كنت أشاهد درس جغرافيا عبر التلفزيون، وأستطيع أن أؤكد لكم أنه خلال نصف ساعة تعلّمت بعض الأمور عن كوكبنا، عن الأرض: كيف كانت عليه قبل 350 مليون سنة، وكيف كانت قبل 300 سنة، وكيف كانت قبل 250 سنة، وهكذا دواليك. أول ما يظهر هو كتلة، كمن يقذف قليلاً من الحبر على ورقة، على سبيل المثال، وتخرج بقعة متراصّة. الأرض كلّها، كلّها، كانت كهذه البقعة قبل 350 مليون سنة. ثم يشرحون ويظهرون مشاهد عمّا كانت عليه خلال المراحل المتتالية، وكيف أخذت هذه البقعة تنفصل وينشأ الشكل الحالي للكرة الأرضية، كل هذه الخريطة التي تستطيعون رؤيتها اليوم لكل واحدة من القارات.

ثم يشرحون ما هي عليه القشرة الأرضية، المحيطة بكل الأرض تحت سطح البحر وعلى الأرض الصلبة، ماذا كانت عليه، كيف تكوّن نتوء كل واحدة من القارات، كيف نشأت سلاسل الجبال. ويعرضون بمناهج تقنية اليوم جوف البحر ووديانه وسلاسله الجبلية، كيف تحدث حركة هذه القشرة اعتباراً مما تسمى الصهارة، التي تشغل أكبر حيّز من الكوكب، أو كيف نشأ جبل هملايا عبر هذه الحركات، كيف تنشأ البراكين، وأي عوامل تؤثر في حدوث الزلازل. وتمكنت خلال ذلك الوقت من مشاهدة عشرات المشاهد بالألوان، بكل التفاصيل، بشروح واضحة، وكم كان بودي أن أكون الآن في الصف السابع والثامن والتاسع.

اندهشت من جديد، شعرت بالسعادة من جديد عندما لمست آفاق المنهاج الذي نقوم بتطبيقه في تعليم نحو نصف مليون طالب في مرحلتنا المتوسطة. نواصل العمل بنشاط في سبيل جعل الوجبة الإضافية الثقيلة عند منتصف النهار تشمل تدريجياً جميع المدارس المتوسطة في البلاد. نأمل بأن يتحقق هذا الهدف مع بدء العام الدراسي المقبل في شهر أيلول/سبتمبر 2004، أي بعد ثمانية أو عشرة أشهر، وهي وجبة تحتوي على 41 بالمائة من البروتينات التي يحتاجها طفل في هذا السن، وبالإضافة لذلك هي مجانية.

ما الذي يمكن أن يخطر على بال شخص نزيه، شخص جادّ، شخص مستقيم، عندما يقرأ برقية صحفية عن أفراد العصابات أولئك، وهم يبحثون ويستنبطون صيغاً للتضييق أكثر على كوبا، لتشديد الحصار، لمنع كل هذا، لمنع الأطفال من التمتع يوماً بعد يوم بمزيد من الكتب، وبمزيد من الموارد التعليمية، وبمزيد من المواد الغذائية وأفضل منها؟

لعلهم يجهلون كلياً بأنه قبل يومين من ذات الاجتماع المثير للسخرية والدنيء للجنة العتيدة كنت أعقد لقاء مع أكثر من 600 طالب وأستاذ قدموا من 239 جامعة أمريكية. أستطيع أن أؤكد لكم بأن أولئك الشبان، الذين يشاركون في برنامج يسمى "فصل دراسي في البحر" ويقومون به مرتين في السنة، تبعث الدهشة نوعيتهم الإنسانية واستقامتهم. إنهم، بدون شك، شباب سيخرجون من الجامعات بمعارف أوسع عن العالم وبثقافة سياسية أكبر. لقد اجتمعت في السنوات الأخيرة وتحدثت مع أكثر من أربعة آلاف منهم.

كان من بين رؤساء الولايات المتحدة خلال هذه السنوات من الثورة من يتباهى بأنه قد قرأ كتاباً واحداً طوال حياته، ويمكن وجود أحد آخر غيره قد قرأ كتابين أو ثلاثة. لعل الأمر الأغرب في مثل هذه الأوضاع هو أن يكون أشخاصاً ذوو قوة قادرة على تدمير العالم خلال ساعات -دققوا جيداً-، ذوو قوة قادرة على تدمير كل بلدان العالم خلال ساعات، أصحاب ثقافة سياسية -ولا أتحدث عن مشاعر- أدنى مما هي عند تلاميذ المرحلة الابتدائية في هذه المدرسة "مارسيلو سالادو" (تصفيق). وأنا لا أبالغ، ولا أُدخل المعلّمين، لأن معلّمينا هم، في هذه المادة، حكماء حقيقيون بالنسبة لكثيرين من أصحاب قوة بهذا القدر من الوحشية، يفتقدون كلياً للمبادئ الأخلاقية والمعنوية. الفارق بين الحقيقة والكذب لا وجود له على الإطلاق بالنسبة لهم.

إنه واقع هذا العالم: نظام معولم وغير قابل للديمومة لاستغلال ونهب كل شعوب العالم الثالث، يحتكم إلى أعراف همجية ليس فيها أي حشمة. ولهذا أقول، حين تذكّري للقاءات مع الطلاب الشباب الأمريكيين، بأن الجلادين الذين يحاولون ارتكاب عملية إبادة بحق كوبا، لن يكون عليهم أن يواجهوا فقط شجاعة هذا الشعب وقرار النصر أو الموت وقرار مواصلة النضال دفاعاً عن الوطن والثورة بإرادة وعزم وخبرة أكبر من أي وقت مضى، وإنما سيكون عليهم أن يواجهوا الشعب الأمريكي نفسه الذي نشعر تجاهه بود متزايد.

يستحق الأمر تذكّر المعركة الكبرى في ذلك الخامس من كانون الأول/ديسمبر، لأنني أتيت إلى المدرسة في السادس من ذلك الشهر، وقبل ذلك بيوم واحد بدأ النضال أمام مكتب رعاية مصالح الولايات المتحدة من قبل ألف شاب من الفرق العلمية، ممن ساروا بعد انتهاء اجتماعهم باتجاه مكتب رعاية مصالح الولايات المتحدة، وانطلاقاً من سيارة جيب أطلقوا الصيحات الأولى.

لا نستطيع أن ننسى كم شهراً استغرقت تلك المعركة، وكيف أنه في النهاية وعى 80 بالمائة من الشعب الأمريكي ذلك الظلم الكبير ودعم عودة ذلك الرفيق الصغير، الذي سبب غيابه لنا جميعاً، لشعب كوبا برمته، الكثير من الألم وبعث عندنا كل ذلك العزم على النضال.

بدأنا معركة صعبة وسط الأكاذيب والافتراءات التي تطلق ضد بلدنا؛ ولكننا كنا عاقدين العزم على كسبها، وكان لنا أن نكسبها، لا يراودنّ الشك أحداً في ذلك. كان لشعبنا أن يكسب هذه المعركة بدون عنف، على أساس الحقائق، على أساس الحجج، على أساس الحق، عبر استخدام إمكانية نقل الحقيقة إلى العالم؛ وليس فقط الرأي العام في الولايات المتحدة الذي أعطتنا أغلبيته الحق، وإنما الرأي العام في العالم أجمع.

ولكن المعركة كانت قد بدأت وكان جلياً أنه لم يكن بوسعنا أن نتوقف في لحظة تسوية ذلك الظلم، لأن المهم، الجوهري، هي كل الأسباب التي تسبب كل ما تسببت به من ألم لشعبنا، بفقدانه الكثير من أرواح الرجال والنساء والشبان والأطفال والشيوخ: المظالم، الجرائم، التهديدات، إجراءات الحصار، الهجمات المرتزقة، أعمال التخريب، حرب القوة العظمى الأكثر جبروتاً وأكبر ثروة في العالم على جزيرة صغيرة تبعد عنها تسعين ميلاً.

لم يستطيعوا وقف تطور الثورة، ولم يستطيعوا منع إنجاز إنساني ليس له مثيلاً في التاريخ. إن هذا هو بلد كرامة، وحشمة، بدأ كفاحاً بمبادئ سامية، كان وما يزال وفياً لها منذ أن خضنا أول معركة ضد النظام المستبد. البلد الذي لم يذلّ على مدى الخمسة وعشرين شهراً من الحرب أسيراً واحداً ألقى سلاحه، لم يضرب واحداً أبداً، ولم يكفّ عن معاملته باحترام أبداً، ولم يتمنّع أبداً عن العناية بجريح، وفي بعض الأحياء بشكل أولوي في حالات الخطورة. كنا نعطيهم أدوية، رغم أننا كنّا محاصَرين في جبال سييرّا مايسترا.

لا ينبغي نسيان الأخلاق، لا ينبغي نسيان المبادئ. لقد بقيت مبادئنا ثابتة على حالها إلى يومنا هذا.

حين تشاهد عبر التلفزيون أنباء قادمة من أوروبا كلّما كان هناك إضراباً أو نزاعاً اجتماعياً لا ترى شيئاً آخر غير رجال يلبسون أجهزة أشبه ما تكون بأجهزة الغوص تحت الماء ويطلقون غازات مسيلة للدموع، ويقذفون مياه بقوة من الخراطيم، وخيول هائلة تداهم الناس وضرب من كل نوع لمواطنين يحتجون على مظالم قديمة وجديدة. يمكن لبلدنا أن يتمتع بالقوة الأخلاقية لتسمية الأشياء بأسمائها، سواء كانوا أفراد العصابات الذي ارتكبوا عدداً لا يحصى من الجرائم بحق كوبا أو الحكومات الأوروبية المنافقة المتواطئة مع الولايات المتحدة في اعتداءاتها على كوبا وتهدد بقطع "مساعدة إنسانية" لم يكن لها وجود ولم تكن أكثر من أكذوبة لا وجل فيها، وتكتسب فوق ذلك صفة صدقة.

كانوا يشترون منّا بقيمة حوالي 500 مليون دولار ونحن نشتري منهم بقيمة أكثر من 1500. إذا ما حسبنا بشكل متحفظ الأرباح التي كانوا يحققونها من التبادل غير المتكافئ معنا، فإنهم كانوا يتلقون من كوبا ما لا يقل عن 400 مليون دولار من الأرباح. ما تسمى "مساعدات إنسانية" كان يتم مناقشتها على مدى سنوات، وكان المندوبون الذين يناقشون تلك المساعدات ينزلون في أفضل الفنادق ويسافرون في أفضل شركات للطيران، وجزء كبير من الأموال كان يُنفَق في ذلك، وفوق هذا كانوا يقررون ما الذي يتوجب فعله بالمساعدة وطريقه فعله.

بشكل عام، أعترف لكم بأن ما تسمى "مساعدة إنسانية" التي هم يحاولون بها غسل ضمائرهم التي تلطخها قرون من سلبهم للعالم ومواصلتهم سلبه، كنا نحن نتلقاها بدافع التهذيب، بدافع اللياقة، ولم نحتج لأي من تلك المساعدات، أرقام بائسة، من أجل صنع كل ما صنعناه.

المأثرة المنجزة خلال هذه السنوات الأربع من معركة الأفكار قمنا بها بمواردنا الخاصة حصراً. بالكاد يبلغ 1% من النفقات بالعملة الصعبة سنوياً، والحقيقة أنها حدثت ثورة عميقة في جوانب حياتية كثيرة سيكون لها أثراً بالغاً.

ما الذي لا يريده أفراد العصابات، أو الأوغاد الذين يصيغون السياسة تجاه كوبا، والعديد منهم أصحاب تاريخ مشين من الأعمال اللاأخلاقية، المتواطئين مع المافيا الإرهابية في ميامي؟ بكل بساطة، لا يريدون، أو هم يفزعون -لا يمكن تفسير ذلك بشكل آخر- من مكانة كوبا المتنامية. لا يجدون نقطة صغيرة يهاجمونها منها. إنهم يحتاجون لتبرير كل شيء على أساس الأكاذيب والافتراءات الفظة.

بل وأن الأمر وصل بهم لاتهامنا بأننا نقوم بصنع أسلحة بيولوجية، ونحن البلد الذي تكرَّس مراكز بحثه كلياً للبحث من أجل إنتاج أدوية تنقذ الأرواح، وأنتجت حقنا تحمي عدداً لا يحصى من الأشخاص في العالم من المرض أو من الموت؛ وهي مراكز تطوِّر وسائل وتقنيات جديدة لمواجهة مشكلات صحية حادة تعانيها البشرية اليوم؛ ونحن البلد الذي لديه أدنى المؤشرات من الإصابة بالآيدز في العالم، ويسعى لإيجاد حلول للوقاية من أورام خبيثة أو معالجتها. بلد يتقدم في اتجاهات كثيرة؛ بل، وبالرغم من تمتعه بخدمات طبية أرقى مما هي عليه في أي بلد آخر، يقوم بتعديل وتحويل هذه الخدمات والارتقاء بها، وهي التي لن تجعلنا نتفوق حتماً على الولايات المتحدة وعلى أي بلد صناعي آخر فقط، وإنما أنه في هذه المقارنة سنتجاوزها بشوط كبير. من المستحيل عليهم أن يتمكنوا من اللحاق بنا. إنهم لا يحتملون ذلك؛ فكبريائهم، واعتدادهم بأنفسهم وعجرفتهم تمنعهم من فعل ذلك. ولكن سيكون عليهم احتماله! أعاهدكم بذلك باسم شعب كوبا! (تصفيق).

آه! إنهم يعلّقون آمالاً كبيرة -وها هي البرقيات تقول ذلك، بين تصريحات دنيئة أخرى كثيرة- بأن يجد الأمر حلاً عاجلاً. آه! نعم، لأنهم يقومون بعدّ ما تبقى لي من ثوانٍ في هذه الحياة، دون أن يتذكر هؤلاء الأغبياء جداً بأن الأمر يتعلق بقائد ثوري كان له امتياز عيش السنوات التي عاشها، رغماً عن محاولات الاغتيال التي لا تحصى المحاكة ضده في الولايات المتحدة.

مصيبتهم أيضا هي أنني أتمتع على ما يبدو بجينات حياة طويلة (تصفيق). إنني أعيش بنفس هادئة وقد عشت دائماً بنفس هادئة تجاه مسائل الحياة أو الموت. لا يتعلق الأمر بمسألة جرأة ولا أقل من ذلك شأناً؛ أنا أعرف تماماً بماذا يتعلق الأمر. لم أكتب سيرة حياتي، ولكن بما أختزنه من ذكريات أستطيع تقريباً أن أملأ مبنى كهذا من الأقراص الليزرية (ضحك).

ولماذا أقول بأن نفسي هادئة وهي أكثر هدوءاً يوماً بعد يوم؟ -من شأن بعضهم أن يتساءل ذلك. بكل بساطة لأن هذه الثورة لا تعتمد على فرد واحد، ولا على اثنين، ولا على ثلاثة. ولكنهم يتكلمون في البيت الأبيض وكأنهم يعرفون اليوم الذي سأموت فيه. من المعروف أنهم خبراء بالقتل. هل سيكون عليّ أن أنتبه أكثر بقليل لكي لا أسهّل المهمة عليهم؟ لا أحد يعرف عدد الذين قتلوهم هم حتى الآن. يوماً ما سيُعرف ذلك، عندما تتم إزالة الطابع السري عن وثائق معينة أو يكشف أحد النقاب عنها. ولكن من الأفضل عدم إضاعة الوقت في ذلك. طالما كنت هكذا.

أحد المشاركين في الاجتماع التاريخي قال: "نرى النظام أكثر وهناً يوماً بعد يوم. إنه يعتمد بشكل حصري تقريباً على شخصية شخص. وهذا الشخص يتقدّم سناً يوماً بعد اليوم وصحته لا تبدو على ما يرام".

إنه أمر يستحق القهقهة. فالاكتشاف الآن أنه في كل دقيقة تمر يتقدم الشخص في السن هو أمر يستحق جائزة نوبل. ويا له من شرف عظيم، يا له من تمييز هائل! إنه أكبر من تمثال الحرية، ذلك الذي يقوم على مدخل نيويورك، النصب الهائل. إني أخاف من مواصلة ازدياده ضخامة درجة التطامه بالقمر شرف إعادة أسباب إخفاقاتهم وفشلهم وهزائمهم، والحقيقة غير المعهودة بأن الإمبراطورية العظمى قد ارتطمت بالمزايا المزعومة لفرد، وذلك عبر إسناد ما هو ثمرة روح لا تتراجع وبطولة شعبه ما فوق العادية لهذا الفرد.

إن الغطرسة تعمي بصيرتهم ولا يسمح لهم الغيظ بأن يروا ولا أن يفهموا ما هي عليه اليوم ما كانت عليه شبه مستعمرة في السابق، حيث كان تسعون بالمائة من الأشخاص أميين أو شبه أميين، والتي تتحطم على صخرة ثقافتها حماقة الذين يقودون الإمبراطورية وعجزهم وجهلهم.

على مدى أكثر من نصف قرن من الزمن كانوا يعلّمون هذا الشعب بأن الاستقلال الذي خاض هو كل الكفاح الذي خاضه من أجله لم يكن من إنجاز سيسبيديس وأغرامونتي ومارتيه وغوميز وماسيو وغيرهم عشرات الآلاف من المناضلين ما فوق العاديين؛ أنه لم يكن ثمرة الحسّ الوطني عند شعب كان قادراً على النضال لمدة ثلاثين سنة ضد قوات معادية وصل تعدادها حتى 300 ألف جندي، حين بالكاد كان عدد أبنائه مليوناً واحداً، وجزء منهم كانوا إسباناً، وحيث كان أسياد كبرى المزارع، من أصل كوبي، موالين للإسبان أو مؤيدين للإلحاق وسط مجتمع عبودي. أعتقد بصدق أن أي شعب لم يصنع مثل هذه المأثرة. وبعد إلحاق الهزيمة بتلك القوة العظمى الإسبانية المتقهقرة تدخلت حكومة الولايات المتحدة بقواتها في البلاد، بأكبر انتهازية بالعالم وبحجة القيام بعمل إنساني، فاحتلتها على مدى أربع سنوات واستولت على كل ثرواتها، وتركتنا وقد تحولنا إلى مستعمرة جديدة بموجب مواد "تعديل" مشين مفروض على دستورنا، يعطيهم الحق بالتدخل، بل وباحتلال جزء من أراضينا بشكل دائم، والإبقاء عليه محتلاً كما حسبما يروق لها لأمد لا حدود له، كما تحتله اليوم في قاعدة غوانتانامو، التي تم تحويلها إلى سجن عالمي ينتهك كل شرع وما يسمونه هم حقوقاً إنسانية. نشعر بالألم عندما يجري الحديث في العالم عن هذا السجن المريع، الذي لا يقل شأناً عن معسكرات الاعتقال النازية.

كمحصّلة لذلك التدخل، ما زالوا يحافظون على تلك القاعدة بالقوة. عندهم في أراضيهم الملايين من الكيلومترات المربّعة. لم يقيموا ذلك السجن هناك؛ إنما أقاموه هنا من أجل إذلال كوبا.

هناك عدد كبير من البلدان يرفع أصواته لوجود مواطنين منه هناك بلا محاكمة وبلا أي ضمانة، بما ينتهك الأعراف الدولية الأساسية.

في الوقت الذي يحدث فيه ذلك، كما سبق وشرحت، يخضع رفاقنا الخمسة الذين كانوا يراقبون النشاطات الإرهابية المعادية لكوبا معرّضين أنفسهم لمخاطر كبيرة من أجل تبليغ بلدنا وتنبيهه إلى تلك الأعمال الإجرامية المتولدة والمُدارة من الولايات المتحدة، لمعاملة قاسية جداً ولاإنسانية في سجون ذات إجراءات أمنية مشددة، في ظل ظروف مذلّة، ظالمة، متمادية في تعسفها، لا تنفع إلا من أجل زيادة إعجاب وفخر شعبنا إعجاباً وفخراً لمشاهدته لهم وهم يحافظون على مبادئهم الثورية وكرامتهم ثابتة لا تلين.

من واجبهم أن يمعنوا النظر في هؤلاء الشبان ويدركوا بأنهم سيجدون هنا الملايين مثلهم. يمكنهم أن يلقوا على هذه الجزيرة وابلاً من القنابل النووية، ولن تستسلم أبداً. إن هذا البلد هو بلد ذو تاريخ بطولي؛ بلد نفذ مئات الآلاف من مواطنيه مهاماً أممية، أصبحوا يتمتعون اليوم بالمعارف العسكرية الكافية لتحويله إلى جحيم لأي غازٍ.

بدأنا الكفاح ضد الجيش الباتستي وقواته المسلحة، التي وصل عددها إلى 85 ألفاً، بعدد قليل من البنادق، سبع فقط. إنه لمعروف جداً التاريخ: الكرامة والحس الوطني وقدرة شعبنا على التفكير والتمعّن والتحليل والتكيف على أي نوع من الحرب. بل وأننا عشنا تجربة خضوعنا لتهديد مئات الصواريخ النووية عام 1962. غير أننا لم نر النوم يطير من عيني مواطن واحد أو أن يشعر هذا بالاضطراب.

يتمتع هذا البلد بملايين المقاتلين وملايين الأسلحة، والتي يعرف تماماً كيف من واجبه استخدامها في حال تعرضه للعدوان. ربما كان ملائماً أن يجلس المخططون الاستراتيجيين لسياسة التهديدات والحصار والتضييق على كوبا بضع دقائق ليفكّروا قليلاً بما ستكون عليه الأمور في هذا البلد، والذي ليس بأمر بالغ السهولة مهاجمته لأسباب عدة: يعرفون بأن الثمن سيكون غير قابل للدفع؛ يعرفون بأنه ليس من شأن الشعب الأمريكي أن يبرره أبداً لأنه، وبالرغم من كل الأكاذيب والحجج التي يمكنهم اختراعها من أجل خداعه، يزداد اعتراضه يوماً بعد يوم على انتهاكات الشرعية، على الأعمال التعسفية وعلى حروب الفتح؛ يعرفون بأن الشعب الأمريكي يدرك على نحو أفضل يوماً بعد يوم حماقات وأكاذيب تلك الحكومة. وأنا أنبههم بأنني أعاملهم بليونة. فكمّ عناصر الحكم المتوفرة من شأنه أن يكون كافياً لكي يترك علاماته عليهم بشكل لا يُمحى أمام التاريخ. ما زال بإمكان الميّت أن يفعل أشياء كثيرة قبل أن يموت!

ولكنهم قالوا حماقة وقحة أخرى. لقد اجتمعت المجموعة تلك وصرّح أبلهٌ جهراً بأنهم لا يقومون فقط بما هو ضروري في سبيل سقوط الثورة بأسرع ما يمكن من الوقت؛ أن الأمر لا يتعلق بهذا فحسب، وإنما بأن يمنعوا بأي ثمن قيام أي قائد ثوري بحكم البلاد، وأنهم سيتكفلون هم بهذا الأمر، وذلك في تنويه واضح للتحرك العسكري.

يبدو أنهم يريدون أن يجلبوا لنا جماعة ميامي، من يدري أي شياطين، أي قطاع طرق، أي فاسدين، كما لو أنه كان بإمكانهم أن يتمتعوا على هذا النحو بإمكانية حكم هذا الشعب غير القابل للترويض. المسألة أنهم لا يعرفون، أو يدخنون ماريهوانا -لا يمكنني أن أفهم ذلك بغير هذه الطريقة-، أو أنهم يقضون حياتهم وهم يحتسون كؤوساً صُنعت من مزيج أشياء عديدة.

يتحدثون وكأنهم يصدِّقون فعلاً بأن هذه الثورة ستسقط غداً، أن هذا البلد لا يمكنه أن يقاوم. إنهم لا يتنبّهون إلى قضية الثورة الكوبية، حقيقتها، قوّتها!

هناك أخطاء ترتكَب في بلدنا، لا أنفي ذلك؛ وأنا أكشف باستمرار، وأنبه، وأدعو للإمعان، أطالب بالتقويم. نحن نعرف أهلنا جيداً. العدو يجهل بأنه سيجد ملايين القادة؛ سيجد شعباً برمته وقد تحوّل إلى قائد، حتى الأطفال من أبنائه؛ سيجدون ثقافة سياسية وثورية لم يتمتع بها أي بلد آخر أبداً؛ سيجدون بأنه لم تحدث أي عملية سياسية بدعم أكبر من الدعم الذي حظيت به هذه الثورة.

سيدركون مرة واحدة بأنه ليس على أساس القوة، ولا على أساس سيارات الإطفاء، ولا الرجال المتقمّصين أجهزة الغوص تحت الماء، ولا الغازات المسيلة للدموع، ولا الخيول ذات السبعة أقدام من الارتفاع والضرب يتم المحافظة على الاستقرار في بلدنا، الذي يتمتع بالعلامة القياسية التي لا يُعلى عليها في عدم استخدامه القوة ضد الشعب أبداً.

يعرفون هم بأن هذا هو حقيقة، على ذات النحو الذي يعرفون فيه بأن أحداً لم يتعرض للتعذيب أبداً هنا، وأن أحداً لم يذهب هنا أبداً ضحية كتيبة موت وأنه لا وجود لمثل هذه المؤسسات؛ يعرفون بأنه لم تحدث أبداً حالات إعدام بدون محاكمة قضائية؛ ويعرفون بأنه لم يتم أبداً ارتكاب عملية اغتيال سياسي على مدار 45 سنة من وجود الثورة، مما يشكل علامة قياسية أولمبية سيصعب جداً تجاوزها في السنوات القادمة؛ ويعرفون بأنه عند وقوع حالة تمرد عام 1994، في الخامس من آب/أغسطس، لم يتحرك شرطي واحد، ولا سيارة إطفاء واحدة أو شيء من هذا القبيل، فقد ذهبت شخصياً إلى هناك، في المقعد الأمامي من سيارة الجيب، وبعدما أعطيت الأوامر بمنع الرجال التسعة الذين كانوا معي من استخدام الأسلحة منعاً باتاً، ترجّلت هناك حيث كانت توجد مجموعة من الناس يعانون مرارة بالفعل، على نحو كبير من الهامشية، ممن كانت الإذاعة الرسمية التحريضية قد أعلنت لهم من الولايات المتحدة بأن قوارب ستأتي لحملهم. وقعوا في فخ الاستفزاز، كانوا غاضبين وبدأوا بقذف الحجارة. لم يتحرك أحد، لأن أول شيء فعلته هو تنبيه السلطات المختصة إلى عدم إرسال ولو فصيلة واحدة من الجنود، ولا من رجال الشرطة. وعندما وصلت حيث كانوا يتواجدون، توقفت البلبلة خلال أجزاء من الثانية. بدأ يأتي أناس من كل مكان وأخذ نفس الأشخاص الذي كانوا يلقون الحجارة بالتصفيق. سرنا باتجاه مدخل المرفأ، كان سيلاً من الناس، لا يدري أحد من أين أتوا، وقمنا بالالتفاف في الكورنيش وسرنا فيه مسافة طويلة. كانت تلك المرة الوحيدة التي قامت فيها بلبلة خلال 45 سنة. لم يطلَق عيار ناري واحد، ولم يتم إلقاء غاز مسيل للدموع، ولم يحدث أي نوع من الضرب، ولم يصب أحد بجرح. إنها القوة الأخلاقية، إنها قوة الكرامة، إنها قوة المبادئ. إنها المرة الأولى التي أتحدث فيها في العلن عن نشاطي الشخصي في ذلك الحادث.

ربما لهذا السبب يعتقدون أنه بعد خمس عشرة دقيقة من وفاتي تسقط الثورة؛ يجهلون أو يزعمون بأنهم يجهلون أن ملايين الأشخاص في هذا البلد يتمتعون بمعارف، أنهم ليسوا أميين، أنهم يفقهون في السياسة أكثر مما يفقهه أولئك السادة، أكثر بكثير، أكثر منهم بما لا يحصى من الأضعاف؛ أنهم يعرفون علم النفس البشري، أنهم يعرفون الحس الوطني التقليدي عند شعبنا، أنهم قادرين على فعل ما يفعله أولئك الرفاق الأبطال، أسرى الإمبراطورية، في قلب الوحش؛ أنهم على علم بأن هذا البلد يتمتع بمئات الآلاف من الرجال ممن تطوعوا في تنفيذ مهمات أممية خطيرة في أصعب الأماكن، وأنه يتمتع اليوم بثلاثمائة ألف أستاذ ومعلم، وأن طَلَب تطوع مربّين للتعليم في أي مكان في العالم من شأن عشرات الآلاف أن يلبّونه.

حين تمت الدعوة للتوجه إلى نيكاراغوا، عرض نفسه ثلاثون ألفاً، وعندما قُتل واحد أو اثنان منهم هناك، عرض نفسه مائة ألف. هذا هو ما عليه هذا الشعب: اقتلوا كوبياً، واطلبوا متطوعين للذهاب للكفاح؛ اقتلوا كوبياً، ارتكبوا ظلماً فاحشاً بحق كوبي واحد وستجدون ملايين الكوبيين مستعدين لوهب أرواحهم، إذا استلزم الأمر، من أجل المطالبة بالحق أو من أجل الرد على الظلم.

لقد تواجدت هنا عصابات نظّموها هم، كلّفت آلاف الضحايا، إرهابيون من كل صنف ونوع، وقد ذهب العمال والفلاحون إلى جبال إسكامبراي، عشرة آلاف عامل وفلاح، منظمين في فصائل، تمكنوا في نهاية الأمر من إلقاء القبض حتى على آخر فرد من تلك العصابات.

قتلوا مشاركين في حملة محو الأمية، مثل مانويل أسكونسي، أو معلمين مثل كونرادو بينيتيز؛ غزوا البلاد، قصفوا شعبنا بشكل مباغِت وبطائرات تحمل رايات كوبية، في خضم حملة محو الأمية، وهي الحملة الأولى من نوعها في كل العالم، فقضت على الأمية خلال سنة واحدة، واليوم يتمتع بمئات الآلاف، نحو 800 ألف مهني جامعي ومثقف وملايين الفنيين بالمستوى المتوسط، وشعب برمته يعكف على الدراسة. إنه بلد عمّم التعليم العالي، بلد يكافح من أجل ثقافة عامة شاملة، بلد سيحصل من وراء معارفه على الدخول التي يحتاجها لتطوره الكامل ولمساعدة بلدان أخرى.

إنه لمن المعروف بأنه في أفريقيا وفي الكاريبي وفي أمريكا اللاتينية يوجد عدد مرتفع جداً من الأطباء ينفذون مهمات في أصعب الأماكن. إنهم يعرفون تماما بأن كوبا، على سبيل المثال، تعنى بصحة ثلاثة أرباع المواطنين الهايتيين؛ لديهم هم طوابير وطائرات قصف ودبابات وصواريخ، وقد قاموا هم وغيرهم بغزو ذلك البلد أكثر من مرة، ولكن أحدها لم يرسل له يوماً طبيباً واحداً، لا يستطيعون إرساله له. مهما دفعت الولايات المتحدة وأوروبا معاً ليس من شأنهما التمكن من جمع مئات الأطباء الذين يعتنون اليوم بصحة المواطنين الهايتيين.

لقد كوّن هذا البلد رأسمالاً بشرياً في جميع الميادين؛ ذكرتُ التعليم، وأستطيع أن أذكر أموراً أخرى كثيرة؛ ذكرت المقاتلين، ذكرت أبناء وطننا التضامنيين ممن نفذوا خلال سنوات الثورة مهمات أممية خطيرة بأعداد تُحصى بمئات الآلاف.

إنهم يعرفون، أو من واجبهم أن يعرفوا، ما هي عليه كوبا قبل أن يتفوّهوا بوافر الحماقات والبلاهة؛ أجدر بهم أن يُعنوا باحتساء ويسكي أو مزج كؤوسهم مع شيء آخر، بدلاً من إضاعة وقتهم في اجتماعات البيت الأبيض الفارغة هذه التي لا تخيفنا.

من واجبهم أن يعرفوا أيضاً بأننا كنا حذرين، تفادينا السفسطات، تركناها كلها لهم، وإذا ما أرادوا الجدل وأرادوا المناقشة من واجبهم أن يتدبروا عدة دروع من الفولاذ الخاص لكي يناقشوا، لأنه ليست لديهم حجة واحدة، ليس عندهم فكرة واحدة، ليس عندهم أخلاق، ليس عندهم دعامة؛ هذه هي الحقيقة. كل المشكلة الآن، التهديدات، هي لكي لا يأتي أي أمريكي إلى هنا، لكي لا يسافروا، لكي لا يزوروا كوبا. لا أدري ما الذي دفعهم لهذا الثوران. أتراه الاجتماع مع هؤلاء الطلبة الأمريكيين الذين أتوا من 239 جامعة، وهو الاجتماع السادس من نوعه؟ وهم فتيان أذكياء، لا تعتقدنّ بأن الأمر يتعلّق بأبناء عائلات فقيرة؛ فهذا النوع من النشاطات مكلف، يجب دفع مقابله. كان القيام بهذا البرنامج مبادرة رائعة من قبل جامعة بيتسبورغ الأمريكية. وفي الجولات التي يقومون بها من أجل معرفة ما يحدث في العالم، يشارك تمثيل من مئات أفضل جامعات الولايات المتحدة. لهذا لا بد من التمييز تماماً. أولئك الناس الذين شاركوا في الاجتماع في البيت الأبيض ليس من شأنهم أن يتجرأوا على الاجتماع بهؤلاء الطلبة الأمريكيين.

أقترح عليهم أن يذهبوا ويجتمعوا بالأكثر من ستمائة طالب وأستاذ الذين اجتمعت بهم على مدار أربع ساعات في قصر المؤتمرات، وأن يناقشوا معهم إن أرادوا معرفة ما يحدث في العالم، إن أرادوا أن يعرفوا ما هي عليه كوبا وما هو عليه انطباعهم، وكيف أن هذا الشعب ليس شعباً متعصباً، وإنما هو شعب أناس مثقفين، حضاريين؛ وأن هذا البلد ربما يكون البلد الوحيد الذي لم تُحرق فيه أبداً راية أمريكية، وهي الطريقة التي يخفف بها أشخاص كثيرون من آلامهم وضيقهم، لم يفعل ذلك أبداً، لأن الأمر يتعلق بثورة مهذِّبة، ثورة مبادئ، ثورة تقوم على أساس أفكار، لا يمكنها أن تحمّل الشعب الأمريكي ما تفعله حكوماته تجاه بلدنا.

خلافاً لذلك، يبدو أنهم هم يحمّلون الذنب للأطفال، للمرضى، للشيوخ، للمعانين، لأن كل هذه الإجراءات الرامية لتشديد الحصار وغيرها، ما هو الهدف الذي تسعى لتحقيقه؟

لقد قلت لكم، ليس عندهم فكرة عن مدى دعم الشعب الكوبي للثورة، ونحن نعرفه بالمليمتر. منذ أربع سنوات ونحن نجمع آراء يومية؛ نرى كيف تقدمت المعارف والوعي بين أبناء شعبنا خلال هذه السنوات، ونرى كيف تزدهر جميع البرامج، عشرات وعشرات من البرامج الاجتماعية، الثقافية، التربوية، الفنية.

قبل أربع سنوات لم تكن توجد مدارس معلمي فنون، وعندما شاهدت عصر هذا اليوم تلك الشابات معلّمات الفنون المتخرجات من هذه المدارس، وهو المكان الوحيد الذي يمكن أن تخرج منه الأحاسيس والقيم التي تجعلنا بشراً، أو المعارف التي تجعلنا منتجين أو مبدعين، فكّرت بقيمة التمتع اليوم ب‍ِ 16000 طالب مختارين يتلقون علومهم في مدارس معلمي الفنون، التي ستخرج في الأشهر الثمانية المقبلة دفعاتها الأولى.

نعرف ما فعله طلاب السنة الثالثة من هذه المدرسة في الـ (UCI)**، وهي جامعة جديدة، والأثر الذي تركوه هناك. على نحو أن تلاميذها لا يقبلون بأن يتم إرسال معلّمين آخرين غير العشرين الذين كانوا هناك، وسيكون لدى بلدنا في شهر أيلول/سبتمبر القادم حوالي 3500؛ ووراءهم، بعد تخرجهم، يتابع 16 ألف آخرين أو يبدأون دراستهم عندما يدخل طلاب السنة الأولى. وهكذا فإننا سنأخذ بتخريج ما لا يقل عن 3500 سنوياً ويلتحق أكثر من أربعة آلاف، لأنه إذا لم يستطع بعضهم إنهاء دراسته، لن نقوم نحن بتسجيل أربعة آلاف فقط؛ نعرف القدرات المتوفرة والمدرسة ستكون مليئة دائماً.

عند رؤيتنا لما نراه اليوم، يمكن تماماً تصوُّر ما سيكون عليه الأمر حين يكون هناك عشرة آلاف خريج، عندما يكون هناك عشرون ألف خريج.

وهناك شيء آخر: يتم الآن تقديم الدعم للمعهد العالي للفنون ودفعه. يتم الاستثمار هناك، فهو ذو شهرة واسعة وسيكون واحداً من أفضلها في العالم.

يوجد في بلدنا اليوم، في العاصمة على سبيل المثال، هناك المدرسة الوطنية للباليه، ويتمتع 4100 طفل أبناء عائلات كادحة، ونزولاً عند طلب عائلاتهم، بيومين في الأسبوع يتلقون فيهما دروساً بالرقص الكلاسيكي على يد أساتذة رقص مصنّفين من بين أفضلهم في العالم، وفي ذات الوقت يقوم 300 طالب هناك بدراسات مهنية. عند المدرسة قدرة على استيعاب 300. وبالرغم من الحصار ومن كل القذارات الإمبريالية، تذهب مجموعة من الحافلات إلى نقاط مختلفة لتقل هؤلاء الأطفال الهواة ذكوراً وإناثاً، من خلال خطوط مدرسية تسير فيها هذه الحافلات، فتقلّهم وتأخذهم بكل أمان خلال الأسبوع. التكلفة، والمحروقات باهظة الثمن، بالكاد تصل إلى ثلاثين ألف دولار سنوياً؛ أي أن توفير هذه الإمكانية لهؤلاء الأطفال من أي عائلة كانت، سواء كانوا يعيشون في البلدية أو في مدينة هافانا، لا يكلّف نقلهم إلا سبع دولارات سنوياً مقابل الطفل الواحد، كما أن مدرسة تأهيل المهنيين نفسها تقوم في ذات الوقت بنشر معارف ثقافية وفنية ذات قيمة كبيرة وتروّج لها.

لا وجود لهذا في أي مكان آخر. هذا ما ينبغي أن يكرّس جهده له أولئك الرموز، وهذا ما ينبغي عليهم أن يخصصوا الأموال له أولئك الذين يتطلعون للسيطرة المطلقة، وليس أن يكرسوها لأعمال الإبادة ولشن حروب الفتح بحثاً عن النفط وعن غيره من المواد الأولية.

فليتم السؤال عمّا إذا كانوا يفعلون شيئاً من هذا. وليتم بحث ما يحدث في تجمعات الغيتو الأفرو-أمريكية في نيويورك، أو في مدن فلوريدا أو في كاليفورنيا، حيث عشرات الملايين من الأشخاص يفتقدون للموارد اللازمة للتعليم وللصحة.

ليس هناك نقطة واحدة، ليس هناك مثال واحد يستطيعون إعطائه للعالم ويكون نافعاً للمقارنة مع إنجاز هذه الثورة. إنما سيكون أشبه بمقارنة الجحيم بالجنة.

إنما يحدونا الارتياح لقيامنا ببناء جنة للفقراء. تحدونا السعادة لكوننا عكفنا على القيام بإغلاق أبواب الجحيم إلى الأبد أمام أبناء وطننا (تصفيق). تحدونا السعادة لكوننا نبني نموذجاً، تحدونا السعادة لكوننا نثبت ما بمقدور الإنسان أن يصنع؛ بأن العدالة هي أمر ممكن، بأنه يمكن بفضل للذكاء الذي يأتي به الإنسان إلى العالم، إذا ما أُحسن استغلاله، الدنوّ من نتائج لم تكن حتى هذا اليوم من التاريخ إلا خيالاً. يحدونا الارتياح لتحويل الخيال إلى واقع.

بهذه الروح نحن نقرأ جميع البرقيات الصحفية المقززة للنفس عن أولئك الرموز المثيرين للاشمئزاز الذين يجتمعون من أجل حياكة أحلام إجرامية. عندما يبلغهم النبأ السعيد بالنسبة إليهم، والهادئ بالنسبة لي، بأن الجهد المتواضع الذي كرّست له حياتي قد تكلل، سيسير قدماً بالثورة ملايين الكوبيين ممن يبلغون من الثورية ما نبلغه نحن وهم أوسع ثقافة وأكثر جاهزية منّا، وهو الشعب الموحد والباسل.

أرى بكل وضوح، ويتم الإثبات في كل صوب وناح، بأن أطفال الصف الأول، الثاني والثالث، يجب التطلع إليهم بحسد. السنين تمر، ولم يمر إلا أربع سنوات على معركة الأفكار وأصبح الأمر يحتاج إلى دليل هاتف تقريباً لتعداد الأمور التي تم صنعها، آلاف وآلاف من المهام والإجراءات في سبيل السير قدماً بالبرامج التي تم الشروع بها.

لقد ذكرت المدارس التي يتعلّم فيها 1600 معلم فنون، ممن تم اختيارهم بدقة. بوسعي أن أذكر مدرسة تأهيل ممرضات ناشئات، عندما شهدت العاصمة نقصاً منهنّ؛ وبوسعي أن أذكر قدرة أربع مدارس جرى بناؤها حديثاً على تأهيل 7200 عامل اجتماعي سنوياً، والألف وأربعمائة منهم الذين أصبحوا يمارسون مهنتهم اليوم. عندما بدأت معركة الأفكار لم يكن هناك شيء من هذا.

بوسعي أن أذكر ظواهر مثل تقليص عدد طلاب المرحلة الابتدائية إلى ما دون العشرين مقابل المعلم الواحد؛ وكان بوسعي أن أذكر الألفين وخمسمائة مدرسة التي تتمتع بالطاقة الكهربائية انطلاقاً من الأطباق الشمسية، وأنه لا يوجد مدرسة واحدة لا تتمتع بوصول الكهرباء من أجل استخدام الوسائل المسموعة والمرئية، أجهزة الاستقبال التلفزيوني والكمبيوتر. يمكن ذكر الأعمال التي نقوم بتحقيقها بالمئات، وإذا حسبنا الصغيرة منها، تعدّ بالآلاف، في البرامج الصحية التي نقوم بها في هذه اللحظة. يمكن ذكر المائة ألف طالب الذين هم في مدارس التأهيل الشامل للشبان. لم يكن هناك وجود لشيء من هذا قبل أربع سنوات.

يمكننا أن نذكر الدراسة التي تحوّلت إلى فرصة عمل وتقليص البطالة إلى ما دون الأربعة بالمائة، ما يعادل من الناحية التقنية عدم وجود بطالة، وذلك في لحظات يعاني فيها العالم أرقاماً عالية ومتزايدة من البطالة.

يمكننا أن نذكر كمية الكتب التي تم طبعها، وعدد مدارس الرسم وغيره من النشاطات الفنية التي تم بناؤها ونتابع بناؤها. يمكننا أن نذكر القناة التلفزيونية التربوية، وهي إحدى القنوات الأكثر استقبالاً في البلاد، وأنه بعد ثلاثة أو أربعة أشهر سنقوم أيضاً بتشغيل القناة التربوية الثانية في كل أنحاء البلاد.

بوسعنا أن نذكر "الجامعة للجميع". وبوسعنا أن نذكر التحاق أكثر من 100 ألف طالب بالدراسات العليا. لم يكن هناك وجود لشيء من هذا قبل أربع سنوات.

يمكننا أن نذكر حقيقة أن 29 ألف طبيب يعكفون على الدراسة اليوم سعياً للحصول على شهادات علمية وأن بضعة آلاف منهم يقومون بتنفيذ مهمات أممية في ظروف صعبة وقاسية، وحتى هناك يتابعون هم دراستهم عبر مناهج جديدة قمنا بتطويرها، الفيديو، التلفاز، الاستخدام المستفيض لهذه الوسائل، أجهزة الكمبيوتر والبرامج التعليمية التفاعلية، وهو ما يجعل هذه المعارف تتضاعف.

في أوقات ليست بعيدة سنتكلم ليس فقط عن 51 ألف أخصائي، من بينهم حوالي 30 ألف أخصائي بالطب العام التكاملي، بين الحوالي 70 ألف طبيب الذين لدينا؛ وإنما سنتكلم عن مئات الآلاف من الأطباء حملة الشهادات العلمية. لقد أصبح يوجد في بلدنا عدداً من الأطباء مقابل عدد السكان أكبر بكثير مما هو عليه في الولايات المتحدة؛ عدداً من المعلّمين مقابل عدد السكان أكبر بكثير مما عند الولايات المتحدة؛ وبالطبع، بالكاد تظهر مساهمتهم في إجمالي الناتج المحلي لأنه ليس بمنتج تجاري، فخدماتهم هي خدمات مجانية كلياً.

سيتم أيضاً تطوير النشاطات الترفيهية والثقافية والفنية والرياضية. سيمتلئ هذا البلد بالمدارس والمتاحف.

في هذا اليوم -وقد تأخرت بعض الشيء- سنذهب لافتتاح متحف رائع في كارديناس. تشغل كارديناس مكاناً بارزاً في قلب الشعب الكوبي، في قلوبنا جميعاً، لأنها بدأت هنا هذه المعركة التي تنتج كل ما تنتج من الثمار وهي مدعوة لإنتاج ما لا نهاية له من الثمار خلال فترة تاريخية قياسية، باتجاه إقامة مجتمع أكثر عدالة على وجه الأرض. إن إنجاز الثورة، المجبول بالكثير من التضحيات وبدم كثيرين من الأشخاص الأبرار، على مدار زمن طويل، لا يدع مجالاً لأدنى شك بأنه يمكن اندثار الجزيرة وكل كائناتها الحية من على وجه الأرض، ولكنهم لن يجعلوا كوبا تتراجع قيد أنملة أمام ابتزازاتهم، أمام مطالبهم الحمقاء وتهديداتهم.

فليفعلوا ذلك إن كانت عندهم الجرأة! فليمحنا من على وجه الأرض! (تصفيق)، فما هو محتمل أن يُمحى، أسرع بكثير مما يعتقدون، هو هذا النظام الظالم، الهمجي، الذي يضطهدون ويستغلون به اليوم العالم على نحو أكبر يوماً بعد يوم، بدون أي أمل بالنسبة لمستقبل البشرية التي نمت خلال 150 سنة ست مرات، من 1000 مليون -استنادا إلى حسابات- إلى 6.3 ألف مليون، والتي سيكون تعدادها خلال خمسين سنة عشرة آلاف مليون شخص، على كوكب يتعرض لدمار أكبر يوماً بعد يوم، حيث تُسرَف الموارد غير المتجددة، ويتسمم فيه الجو والهواء والبحار. على نحو يمكن الإثبات عبره، حسابياً، أن الجنس البشري، مع الأسلحة المجرمة التي تم تطويرها وحتى بدونها، مع تدمير الشروط الطبيعية للحياة، يمكنه أن يندثر؛ وما لن يندثر ما دام هناك وعي وأشخاص قادريون على حمله، هو فكرة واجب النضال في سبيل عدم اندثار الجنس البشري واندثار العجائب التي يمكن للذكاء البشري إبداعه معه (تصفيق).

لقد اضطررت للتحدث في ظروف معقدة قليلاً، فأمامي الكبار، وأمامي الصحافة، وأمامي الأطفال. ولكن، حسناً، عزائي هو في أمر واحد: أعرف أن أي من هؤلاء الأطفال، منذ الصف الأول ابتدائي، يستطيع أن يدرك من الأمور أكثر بكثير مما قلته لهم.

آمل أن تعذروني على إبقائكم جالسين وقتاً طويلاً، في حين أنكم تواقين للتمتع بالوجبة الإضافية، بالبوظة وكل هذه الأمور التي تنتظر كل أطفال كارديناس. ولكن، بما كنت عليه من مشروع محامٍ، أود أن أدافع عن نفسي بتذكيركم أنكم أنتم الذين طالبتموني بالتحدث (تصفيق وهتافات: "فيدل، فيدل"). وقد نبهتكم أنكم تخوضون مجازفة كبرى.

عاش الوطن! (هتاف: "عاش!")

عاشت الحياة! (هتاف: "عاشت!")

عاشت الثقافة! (هتاف: "عاشت!")

عاش التعليم! (هتاف: "عاش!")

عاش إلى الأبد إنجاز شعبنا ومثاله! (هتاف: "عاش!")

حتى النصر دائماً!

(تصفيق حاد)