نص الخطاب الذي ألقاه رئيس جمهورية كوبا، فيدل كاسترو روس، في المهرجان الذي أقيم بمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين لانتصار الثورة، وذلك في قاعة مسرح "كارل ماركس"، في 3 كانون الثاني/يناير 2004.

 

يا أبناء وطننا الأعزاء،

أيها المدعوون الكرام،

كثيرون ممن تشرفنا بأن كنا شهوداً على ذلك اليوم المحرك للمشاعر ما زلنا أحياء؛ وكثيرون آخرون ماتوا؛ الأغلبية الساحقة من الحاضرين هنا كانت أعمارهم تقل عن العشر سنوات، أو أنهم كانوا ما يزالون على مسافة زمنية طويلة من الولادة في الأول من كانون الثاني/يناير 1959.

لم تكن أهدافنا أبداً السعي للمجد أو التشريفات أو تحقيق العرفان الفردي أو الجماعي. غير أننا الذين نحن اليوم أصحاب الحق الشرعي بحمل لقب ثوريين كوبيين نجد أنفسنا مجبرين على كتابة ما أضحى صفحة لم يسبق لها مثيل في التاريخ. نتيجة اختلافنا مع الوضع السياسي والاجتماعي السائد في بلدنا، عقدنا العزم بكل بساطة على تغيير ذلك الوضع. لم يكن ذلك بأمر جديد في كوبا، فقد كان قد حدث أحياناً كثيرة على مدى نحو قرن من الزمن.

كنّا نؤمن بحقوق الشعوب، ومن بينها الحق بالاستقلال والتمرد على نظام الاستبداد. وعن ممارسة هذه الحقوق في هذه القارة، التي فتحتها القوى العظمى الأوروبية بقوة الحديد والنار -بما فيها ارتكاب المجازر الجماعية بحق السكان الأصليين واستعباد ملايين الأفارقة- نشأت مجموعة من البلدان المستقلة، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية.

عندما خاضت الثورة الكوبية أول معركة لها في السادس والعشرين من تموز/يوليو 1953 ضد النظام غير الشرعي والفاسد والدموي، لم يكن قد مرّ بعد ثماني سنوات على انتهاء الحرب العالمية الثانية التي شنتها الفاشية عام 1939، وكلّفت أرواح أكثر من خمسين مليون شخصاً وأنزلت أضراراً باقتصاد جميع البلدان الصناعية آنذاك، باستثناء اقتصاد الولايات المتحدة، البعيدة عن متناول القنابل والمدافع المعادية.

أفكار الفاشية التي أدت إلى مثل تلك الحرب بالغة العظم كانت تتناقض كلياً مع المبادئ المعلنة في "بيان استقلال" الثلاثة عشر مستعمرة إنكليزية سابقاً في شمال القارة الأمريكية الصادر في الرابع من تموز/يوليو 1776. في ذلك البيان تم التأكيد حرفياً: "نتبنى كحقائق جلية أن جميع أبناء البشر يولدون متساوين؛ وأن الخالق يمنحهم جميعاً حقوقاً ثابتة معينة، يأتي من بينها الحق بالحياة والحرية والوصول إلى السعادة […] وأنه ما دام هناك شكل حكومي يسير باتجاه تدمير هذه الأهداف، من حق الشعب إصلاحه أو إلغائه ووضع حكومة جديدة تقوم على أساس تلك المبادئ وتنظّم سلطاتها على النحو الذي ترى فيه أنها تضمن بشكل أفضل أمنه وسعادته".

"البيان الفرنسي لحقوق الإنسان"، الصادر على أثر ثورة عام 1789، ذهب أبعد من ذلك بعد في هذا الموضوع، حيث أعلن أنه "عندما تنتهك الحكومة حقوق الشعب، فإن التمرد بالنسبة لهذا هو أقدس الحقوق وأمس الواجبات".

كانت الأفكار الفاشية آنذاك تصطدم وجهاً لوجه مع المبادئ المكرسة في ميثاق الأمم المتحدة بعد معركة الحرب العالمية الثانية الضارية، والتي أُعلن في ما أعلن من بينها، كحقوق أساسية للنظام السياسي العالمي، احترام حق الشعوب بالسيادة والاستقلال.

في الحقيقة أنه لم يتم احترام حقوق الشعوب أبداً على مدار التاريخ القصير المعروف من تاريخ البشرية، المليء بحروب الفتح والإمبراطوريات ومختلف أنواع نهب واستغلال أبناء بشر على يد آخرين من أبناء جنسهم. غير أنه في تلك اللحظة من الصيرورة التاريخية وبالرغم من الحقيقة الواقعة بأن القوى الظافرة فرضت نظاماً سياسياً عالمياً ذا امتيازات تبعث قدراً أكبر من الاستياء يوماً بعد يوم لمجموعة صغيرة جداً من أقوى الدول، فإن بلداناً كثيرة وهيئات وأشخاص حداهم الأمل أن مرحلة جديدة وواعدة من مراحل البشرية قد حلّت. أكثر من مائة بلد أو مجموعة من البلدان، بما فيها مجموعات بشرية لم تكن قد أحرزت بعد شعوراً بالانتماء القومي، وجدت الاعتراف الشكلي كدول مستقلة. كانت مرحلة بالغة الخصب لبعث الوهم والخداع.

المجموعة الواسعة من البلدان التي حظيت شكلياً بوضعية دول مستقلة كانت تتكون، في الأغلبية الساحقة منها، من مستعمرات سابقة وممتلكات مستقلة ومحميات وغيرها من أشكال قهر البلدان والسيطرة عليها التي فرضتها أكثر القوى العظمى جبروتاً عبر القرون.

كان استقلالها عن البلدان المستعمِرة سابقاً شبه كلي؛ وكفاحها من أجل تحقيق سيادة أكبر والتحرك على أساس هذه السيادة كان قاسياً وفي كثير من الأحيان بطولياً. الدليل على ذلك هو المضايقة المريعة التي تخضع لها هذه الدول لكي تدعم مشاريع الولايات المتحدة في جنيف أو الامتناع عن التصويت على هذه المشاريع في أحسن الأحوال. إنه ليثير الإعجاب سلوك هذه الدول في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي يعبّر عن نفسه في دعم كوبا المتزايد شبه المُجمع ضد الحصار.

أسوأ ما في الأمر هو أن عدداً ليس بقليل من البلدان التي يفترض بأنها كانت مستقلة قبل تلك الحرب كان يجهل المدى الذي يبلغه افتقاده للاستقلال، ومن بين هذه البلدان تأتي كوبا. مجموع البلدان الأمريكية اللاتينية تقريباً كانت ضمن هذه القائمة المؤسفة، الأمر الذي أمكن إثباته بشكل أكبر بكثير لاحقاً. حالما حقق شعبنا استقلالاً حقيقياً وكاملاً، مجموع حكامها النخبة تقريباً التحقوا بالولايات المتحدة في مسعاها لتدمير الثورة ومنع الإنجازات السياسية والاجتماعية التي سرعان ما أخذنا بتحقيقها.

منذ عام 1959 نفسه بدأت الاعتداءات باستخدام كل الوسائل الاقتصادية والسياسية، بما فيها العنف والإرهاب والتهديد بالاستخدام الواسع للقوة العسكرية الأمريكية.

ما حصل مع كوبا ساهم في إثبات مدى ما كان يبلغه الوهم والخداع في النصوص الأنيقة المتعلقة بالمبادئ والحقوق المعلنة من قبل منظمة الأمم المتحدة.

ظلت القوة وليس الحق، كما أخذ بالحدوث على مدى آلاف السنين، العامل الأساسي في حياة البشرية.

كل ما حدث حتى يومنا هذا، اعتباراً من العناصر التاريخية الأولى المتوفرة لدينا، هو ثمرة تطور المجتمع البشري بشكل طبيعي وتلقائي، وأخرق وفوضوي. لا يمكن تحميل أحد مسؤولية مختلف الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي توالت على مدار خمسة آلاف سنة.

مختلف الحضارات التي نشأت في أكثر مناطق العالم عزلة: الصين، الهند، الشرق الأوسط، البحر المتوسط، أمريكا الوسطى والجنوبية، من الواضح أنها كانت مجهولة كل واحدة بالنسبة للأخرى، كانت مستقلة، مع أنها في أمورٍ كثيرة أظهرت مستويات ما فوق العادية من المعارف. بعضها يبهرنا، كالثقافة اليونانية على سبيل المثال: فنها، فلسفتها، أدبها، معارفها في التاريخ والفيزياء والرياضيات والفلك وغيرها من الحقول.

إنه في ازدياد ما يُعرف عن حضارة شعب المايا وعن غيرها من الحضارات السابقة للشعوب الإنكا، مما يثبت بأن الإنسان، رغم عشرات الآلاف من السنين التي تفصله زمنياً وعشرات الآلاف من الكيلومترات التي تفصله من حيث المكان، كان قد أصبح إنساناً مبدعاً وقادراً على إنجاز أعمال ما فوق العادية؛ ولكن في جميع الحضارات التي سبقتنا وفي الحضارة الراهنة، كان يوجد ويوجد، بطريقة أو بأخرى، إمبراطوريات، حروب فتح، أشكال عبودية وإقطاع، أغنياء وفقراء، طبقات اجتماعية متميّزة مهيمِنة وطبقات مستغَلّة، مهمّشة ومستثناة. من شأن جهل ذلك أن يشكل أقصى درجات الجهل.

من واجبي أن أعطي الحق لماركس عندما طرح الفكرة القائلة بأنه عندما يوجد على وجه الأرض نظام اجتماعي عقلاني وعادل ومتكافئ بالفعل، يكون الكائن البشري قد خرج من حقبة ما قبل التاريخ.

إذا كانت كل مسيرة المجتمع البشري قد تمت على نحو حتمي من الفوضوية، وانعدام التنظيم، وانعدام القابلية للاستقراء والتمادي في القسوة والظلم، فإن النضال من أجل إقامة عالم مختلف، عقلاني بالفعل، يستحقه ذكاء جنسنا، يشكل في هذه اللحظة من تاريخه، الذي لا يشبه في شيء أي مرحلة سابقة لتاريخ البشرية، أمراً لم يكن ممكناً ولا حتى في الخيال: محاولة جعل أبناء البشر يبرمجون وللمرة الأولى مصيرهم.

إن الحلم بأمور مستحيلة يسمى طوباوية؛ والكفاح من أجل تحقيق أهداف غير قابلة للتحقيق فقط، وإنما لا يمكن الاستغناء عنها من أجل بقاء جنسنا، يسمى واقعية.

من الخطأ الافتراض بأن مثل هذا الهدف ينم عن مجرد دافع أيديولوجي. يتعلق الأمر بشيء يتجاوز حدود المشاعر النبيلة والمبررة تماماً بالعدالة والرغبات العميقة بأن يتمكن كل أبناء البشر من الوصول إلى حياة كريمة وحرة؛ يتعلق الأمر ببقاء الجنس البشري.

الفارق الهائل بين العصر اليوناني والعصر الحالي لا يكمن في القدرة الذهنية عند جنسنا؛ إنما يكمن في التقدم الاستعراضي والذي لا نهاية له ظاهريا لتطور العلوم والتكنولوجيا الذي حدث خلال السنوات المائة وخمسين الأخيرة، وهو تطور يتفوق كلياً على القدرة السياسية الضيّقة ولا تذكر التي تم إثباتها في مواجهة المخاطر بالاندثار التي تهدد الجنس البشري كما تهدده.

لقد بدا جلياً قبل أقل من ستين سنة، حين انفجرت فوق هيروشيما أول قنبلة نووية تعادل عشرين ألف طن من التي أن تي (TNT)، بأن التكنولوجيا قد خلقت أداة يمكن لتطورها أن ينهي وجود الحياة البشرية على وجه الأرض. منذ ذلك الحين لم يتوقف يوماً واحداً تطوير أسلحة وأنظمة من هذا النوع جديدة وحتى أقوى بعشرات المرات ومتنوعة وأكثر يقيناً. يوجد اليوم عشرات الآلاف منها، لم يتم إزالة إلا القليل منها بفضل اتفاقات مخادعة ومحدودة.

هناك مجموعة صغيرة من البلدان التي تحتكر هذه الأسلحة تعطي لنفسها الحق الحصري بإنتاجها وتحسينها. تناقضات ومصالح أعضاء هذه المجموعة تتعرض لتغيرات، والبشرية تقوم بمسيرتها في ظل سقف من الأسلحة النووية التي تهدد وجودها. يمكن لأحد أن يطلق تأكيداً مشابهاً لقول ذلك الإمبراطور الفارسي حين اقترب بجيش جرّار من الثلاثمائة إسبرطي الذين كانوا يدافعون عن مضيق تيرموبيل، ويقول: "صواريخنا النووية ستطفئ الشمس".

أرواح آلاف الملايين من أبناء البشر الذي يقطنون الكوكب تعتمد على ما يفكر به ويعتقده ويقررهأشخاص قليلون. أخطر ما في الأمر هو أن أصحاب القوة البالغة كل هذا الجبروت لا يتمتعون بأخصائيي أمراض عقلية. لا يمكننا أن نرضى بهذا الواقع. من حقنا أن نكشف ونضغط ونطالب بتغييرات وبوضع حد لهذا الوضع غير المعهود والخارج عن المنطق، وهو وضع يحوّلنا جميعاً إلى رهائن. لا ينبغي على أحد أبداً أن يتمتع بمثل هذه الصلاحيات، وإما لن يستطيع أحد في العالم أن يعاود الكلام عن حضارة.

تضاف إلى هذه المشكلة مشكلة قاتلة أخرى: قبل أربعين سنة بالكاد بدأ بعضهم بالتعبير عن القلق إزاء ما اتفق على تسميته الوسط البيئي، اعتباراً من حضارة همجية كانت تقوم بتدمير الشروط الطبيعية للحياة. تم للمرة الأولى وضع هذا الموضوع بالغ الحساسية على بساط البحث. وعدد ليس بقليل من الأشخاص اعتقدوا بأن الأمر يتعلق بأشخاص مثيرين للخوف بلا داعٍ وأشخاص مبالغين، نزعة نيومالثوسيانية من طراز قرون عابرة.

كانوا في الحقيقة أشخاصاً على اطلاع واسع وأذكياء شرعوا بمهمة بث الوعي عند الرأي العام حول الموضوع، ويعتريهم الألم أحياناً بأن الأوان قد فات لاتخاذ الإجراءات اللازمة. وأولئك الذين كان يتوجب عليهم إظهار قلق أكبر انطلاقاً من مسؤولياتهم الرفيعة لم يُظهروا إلا التجاهل والازدراء.

ها قد مرّ أكثر من عشر سنوات على انعقاد قمة ريو دي جانييرو بدعوة من الأمم المتحدة، وبالرغم من الانتشار المعتاد للخطابات والالتزامات والوعود، قليل هو ما تم القيام به. غير أن وعي الخطر القاتل ينمو. ويجب أن ينمو النضال وسينمو. ليس هناك من خيار.

قبل وقت قصير جداً انعقد في هافانا لقاء حول التصحر والتغير المناخي دعت إليه منظمة الأمم المتحدة أيضاً، وهو جهد هام لنقل المعلومات والوعي والدعوة للنضال.

كنت شاهداً في ريو دي جانيرو على القلق والخوف اللذين اعتريا ممثلي الجزر الصغيرة من المحيط الهادئ وبلدان أخرى يهددها خطر طمر المياه لها جزئياً أو كلياً نتيجة التغير المناخي. إنه لأمر مؤسف. أول من يعاني نتائج تضرر الوسط البيئي هم الفقراء. ليس لديهم سيارات، ولا مكيِّفات هواء، وربما ولا قطع أثاث، هذا إذا كان لديهم مسكناً. تقع عليهم بشكل أكثر مباشرة آثار انبعاث ثاني أكسيد الكربون المسبَّب لارتفاع حرارة الغلاف الجوي والأثر الوبيل للأشعة ما فوق البنفسجية التي تخترق مصفاة طبقة الأوزون التالفة. وعندما يمرضون، من المعروف تماماً بأنه لا توجد لهم مستشفيات ولا أطباء ولا أي دواء.

مشكلة ثالثة: وفقاً للحساب الأكثر تحفظاً ممكناً، احتاج سكان العالم لما لا يقل عن خمسين ألف سنة لكي يصل عددهم إلى ألف مليون نسمة. حدث ذلك في حوالي عام 1800، مع بداية القرن التاسع عشر. ووصل هذا العدد إلى ألفي مليون بعد ذلك الموعد بمائة وثلاثين سنة، عام 1930، القرن العشرين. ووصل إلى ثلاثة آلاف مليون في عام 1960، أي بعد ثلاثين سنة؛ وإلى أربعة آلاف مليون عام 1974، أي بعد 14 سنة؛ وإلى خمسة آلاف مليون عام 1987، بعد ثلاثة عشر سنة؛ وإلى ستة آلاف مليون عام 1999، بعد اثنتي عشر سنة فقط. ويبلغ عددهم اليوم 6374 مليوناً.

إنه لأمر يبعث الدهشة فعلاً أن يكون عدد سكان العالم قد تضاعف 6.4 مرات خلال 204 سنوات، بعدما كان قد وصل عددهم إلى ألف مليون عام 1800، بعد ما لا يقل عن خمسين ألف سنة، وهي مقدّرة بشكل تعسفي ومحافظ نسبياً من أجل إيجاد نقطة مرجعية يجب اعتمادها لاحقاً. ربما كان عدد السنوات أكبر بكثير، مع اكتفائنا بالمدة التي وصل فيها إلى قدرته الراهنة.

بأي وتيرة ينمو عدد السكان في هذه اللحظة:

عام 1999: عدد السكان، 6002 مليون نسمة؛ النمو، 77 مليوناً.

عام 2000: عدد السكان، 6079 مليون نسمة؛ النمو، 75 مليوناً.

عام 2001: عدد السكان، 6154 مليون نسمة؛ النمو، 74 مليوناً.

عام 2002: عدد السكان، 6228 مليون نسمة؛ النمو، 72 مليوناً.

عام 2003: عدد السكان، 6300 مليون نسمة؛ النمو، 74 مليوناً.

عام 2004: عدد السكان التقديري، 6374 مليون نسمة؛ النمو، 74 مليوناً.

إلى كم سيصل عدد سكان العالم سنة 2050؟

التقديرات الأكثر انخفاضاً تؤكد بأنه إلى 7409 ملايين؛ والتقديرات الأكثر ارتفاعاً تؤكد بأنه سيصل إلى 10633 مليوناً. وحسب وجهة نظر خبراء كثيرين فإن عددهم سيبلغ حوالي تسعة ملايين نسمة. الخوف الهائل الناجم عن هذا الانفجار الديمغرافي الهائل، إلى جانب التدهور المتسارع للظروف الطبيعية الأساسية اللازمة لبقاء الجنس البشري، بعث جزعاً حقيقياً عند بلدان كثيرة، إذ أن حوالي مائة بالمائة من الأرقام المذكورة من النمو ستُسجَّل في بلدان العالم الثالث.

بعد معرفة التدهور والتقلص المتزايدين لموارد الأرض والماء، والمجاعات التي تحل في بلدان كثيرة؛ وعدم ائتباه المجتمعات الاستهلاكية وإسرافها؛ وكذلك المشكلات التعليمية والصحية التي يعانيها سكان العالم، إذا لم يتم حلها، فإن الأمر يحمل على تصوّر جنساً بشرياً يقوم فيه أبناؤه بالتهام بعضهم بعضا.

من المفيد سؤال الأبطال الأولمبيين لحقوق الإنسان في العالم الغربي أن كانوا قد كرسوا دقيقة واحدة فقط في إحدى المرات للتفكير في هذه الحقائق، والتي هي على مستوى كبير جداً من المسؤولية عن النظام الاقتصادي والاجتماعي؛ ما هو رأيهم بنظام، بدلاً من تعليم الجماهير كمسألة أساسية للتقدم بدعم العلم والتقنية والثقافة بالذات سعياً لحلول ممكنة وماسّة، إنما هو ينفق مليون مليون دولار سنوياً على الدعاية التجارية المفسِدة والاستهلاكية. بواسطة ما يتم إنفاقه خلال واحدة فقط من هذه السنوات لزرع هذا السم الفريد من نوعه، يمكن محو أمية جميع الأميين وشبه الأميين في العالم ورفع مستواهم التعليمي إلى الصف التاسع خلال أقل من عشر سنوات، وليس من شأن أي طفل فقير أن يُحرم من التعليم. بدون تعليم وغيره من الخدمات الاجتماعية لن يكون بالإمكان أبداً خفض الجريمة واستهلاك المخدرات وحتى القضاء عليهما تقريباً. نؤكد ذلك من كوبا، البلد المحاصر على مدى 45 سنة، والمتهم والمدان في مرات ليست بقليلة في جنيف من قبل الولايات المتحدة وأقرب المقربين إليها من شركائها، التي هي على وشك تحقيق خدمات صحية وتعليمية وتأهيل ثقافي بمستويات من الجودة لم يحلم الغرب المتقدم والغني أبداً بها، وبالإضافة لذلك هي مجانية كلياً لجميع المواطنين بدون أي استثناء.

العولمة النيوليبرالية المفروضة على العالم، والمصممة من أجل سلب أكبر للموارد الطبيعية في هذا الكوكب، سارت بأغلبية بلدان العالم الثالث، وبشكل خاص منها بلدان أمريكا اللاتينية، بعد "إجماع واشنطن" المشؤوم، إلى وضع يائس وغير قابل للديمومة.

أولى ثمار تلك السياسة المشؤومة كانت "العقد الزمني الضائع"، عقد الثمانينات، الذي اقتصر نمو المنطقة فيه على واحد بالمائة؛ ووصل إلى 2.7 بالمائة بين عامي 1990 و1998، أدنى بكثير من الأوهام الزائفة والحاجات الماسة، ليعود هذا النمو إلى الهبوط إلى واحد بالمائة بين عامي 1998 و2004.

الديون الخارجية التي كانت تصل عام 1985، عام "الإجماع" الغدّار، إلى 300 ألف مليون دولار، تصل اليوم إلى أكثر من 750 ألف مليون.

عمليات الخصخصة أنزلت خسائر بقيمة مئات الآلاف من ملايين الدولارات بممتلكات قومية تم إنتاجها خلال سنوات طويلة، والتي تبخرت بالسرعة التي تفرّ بها رؤوس الأموال من هذه البلدان إلى الولايات المتحدة وأوروبا.

وصلت البطالة إلى أرقام قياسية. من بين كل مائة فرصة عمل جديدة تم توفيرها، هناك 82 تعود لما يسمى "القطاع غير الرسمي"، الذي يشمل قائمة طويلة من الذين يكسبون لقمة عيشهم بأي طريقة بلا أي نوع من أنواع الحماية الاجتماعية أو القانونية.

نما الفقر بشكل مجزع، وخاصة الفقر المدقع، 12.8 بالمائة حتى وصل إلى 44 بالمائة من المواطنين. النمو يصاب بالشلل والخدمات الاجتماعية تتدهور يوماً بعد يوم. في هذه الأخيرة، التي تشمل أولاً تعليم وصحة المواطنين، كما كان متوقعاً، تسببت العولمة النيوليبرالية بكارثة حقيقية.

إذا ما أضيفت لهذا أشكال قديمة وجديدة من النهب كالتبادل غير المتكافئ والفرار المتواصل والإلزامي لرؤوس الأموال وسرقة الأدمغة والحماية الجمركية والمعونات الحكومية والمراسيم القيصرية التي تصدرها منظمة التجارة العالمية، لا ينبغي أن يستغرب أحد من الأزمة والأحداث التي تسجَّل في أمريكا الجنوبية.

كانت أمريكا اللاتينية المنطقة التي تم فيها تطبيق العولمة النيوليبرالية بأكبر صرامة وتطلّب في العالم. والآن تواجه تحدي "منطقة التجارة الحرة الخاصة بالأمريكتين" (ALCA)، التي من شأنها أن تمحو الصناعات الوطنية من الوجود وأن تحوّل كلاً من "سوق الجنوب" (MERCOSUR) ومعاهدة الأنديز إلى ملحقين بالاقتصاد الأمريكي: هجوم نهائي على التنمية الاقتصادية ووحدة واستقلال الشعوب الأمريكية اللاتينية.

ولكن إذا تم تنفيذ محاولة الإلحاق هذه، يظل هذا النظام الاقتصادي غير قابل للديمومة سواء كان بالنسبة لشعوب أمريكا اللاتينية أو بالنسبة لشعب الولايات المتحدة نفسه، الذي يرى فرص عمله مهددة من قبل يد عاملة رخيصة هائلة العدد تجندها مصانع المناطق الحرة بين أولئك الذين منعهم الفقر والكارثة التعليمية والبطالة السائدة من تحقيق مهارات ملائمة. يد عاملة رخيصة وبلا مهارات هو أمر تستطيع الأوليغارشيات الأمريكية اللاتينية أن توفّره بشكل واسع.

الموجز المختصر لكل ما قلته يعبّر عن القناعة العميقة بأن جنسنا البشري، ومع كل واحد من شعوبنا، هو في لحظة حاسمة من تاريخه: إما يتغير مجرى الأحداث وإما لن يعود بوسعه أن يعيش. ليس هناك من كوكب آخر نستطيع الانتقال إليه. في المريخ لا يوجد غلاف جوي، ولا هواء ولا ماء. ولا كذلك خطوط نقل من أجل الهجرة الجماعية إلى هناك. إما ننقذ كوكبنا، وإما سيحتاج الأمر لملايين كثيرة من السنوات لكي ينشأ على الأرجح جنس ذكي يستطيع أن يبدأ من جديد المغامرة التي عاشها جنسنا. لقد شرح البابا يوحنا بولس الثاني بأن نظرية التطور لا تتوافق مع مذهب الخلق.

من واجبي أن أختتم كلامي. ليس بقليل العمل الذي ينتظرنا في عام 2004.

من واجبي التقدم بالتهاني من شعبنا على كل ما فعله خلال هذه السنوات، على بطولته، على حسه الوطني، على روحه النضالية، على وفائه وحماسه الثوري.

أهنّئ بشكل خاص في هذه الذكرى الخامسة والأربعين أولئك الذين عرفوا كيف ينفذون مهمات أممية مجيدة، والذين يجدون رمزهم اليوم في سلوك الأبطال الخمسة أسرى الإمبراطورية، الذين يواجهون بكرامة مدهشة أعمال أعداء وطنهم وشعبهم الظالمة والانتقامية والقاسية، وفي الخمسة عشر ألف طبيب الذين ينفذون مهماتهم الأممية في أي ركن من الأكثر من الأربعة وستين بلداً، عبر إغداقهم للتضحيات وتحديهم للمخاطر، وهي مأثرة إنسانية ليس بوسع الولايات المتحدة وأوروبا أن تنفذانها أبداً لافتقادهما للرأسمال البشري، لكي يثبتوا ماهية حقوق الإنسان التي يدافعون عنها بالفعل.

لن يستطيع أحد منع السلوك التضامني لشعبنا وشجاعة أبنائه بتهديدات ولا اعتداءات على أطبائنا ومعلمينا ومرشدينا الرياضيين أو أي نوع آخر من المتعاونين، لأن كثيرين هم على استعداد لشرف شغل أماكن أولئك الذي حتى فقدوا حياتهم، ضحية أعمال إرهابية يحفزها ويدفع لها موظفون متطرفون في حكومة الولايات المتحدة.

أهنئ جميع المناضلين، الذين لا يتراجعون أبداً أمام الصعاب؛ الذين يؤمنون بالقدرات البشرية على إبداع وزرع وجني قيماً وأفكاراً؛ والذين يراهنون على البشرية؛ والذين يشاطرون القناعة الرائعة بأن وجود عالم أفضل هو أمر ممكن!

سنناضل إلى جانبهم وسننتصر!