توطئة للأصدقاء البوليفيين

كتاب "فيدل وبوليفيا وأكثر" تلقيته كهدية من إيفو، رئيس بوليفيا، خلال زيارته الأخيرة لكوبا في الثاني والعشرين من أيار/مايو 2008.

عرفت منه ومن رافائيل داوساه، سفير كوبا لدى بوليفيا، الذي رافقه في زيارته، أن مؤلفوه يرغبون بإصدار طبعة جديدة من الكتاب، تتوافق مع الذكرى الثمانين لولادة تشي [غيفارا] التي تحل بعد أسبوعين، في الرابع عشر من حزيران/يونيو. حالما شاهدت الصور والمقصوصات الصحفية والفهرس وقرأت عدة فقرات حرفية، قلت لكل من إيفو وداوساه أن يسمحا لي بإدراج توطئة لكي أشكر فيها المؤلفين. أجاباني: "هذا هو ما يريدونه هم".

قرأته كاملاً دفعة واحدة في اليوم التالي. أدركت أن الأمر يتعلق بكلمات لي، تم أخذها حرفياً. كنت توّاقاً لمعرفة ما قلته عام 1993، في هذه اللحظات التي أصبحت تحدث فيها الأشياء التي تحدثت عنها آنذاك. ولا أنا نفسي أعرف كيف أجبت في تلك المناسبة على كل واحد من الأسئلة الجادّة العديدة، وبعضها بارع جداً، والتي جعلتني استخرج الكثير من المفاهيم التي كانت تخالجني، رغم المخاطرة بألا أكون مفهوماً. تلك الزيارة كانت بالغة الصعوبة. كان تشي قد توفي قبل ذلك الموعد بست وعشرين سنة.

شاهدت عبر شاشات التلفزيون مؤخراً صورته المهيبة المنحوتة على البرونز، باتجاه روساريو، المدينة التي جاء فيها إلى العالم. أخذت أفكر وأتمعّن خلال حيز من الوقت بالأمور التي تحدثت بها معه منذ أن تعرفت إليه وحتى لحظة مغادرته إلى نيانكاهوازو في بوليفيا. لم يسبق لتلك المشاهد أن مرّت أبداً بخواطرنا ولم يكن هناك أي دافع عند أي منّا للاعتقاد بأنه سيعيش سنوات طويلة.

اليوم أقوم بواجبي تذكُّر ما قلته في ذلك البلد عندما زرته. شرحت لهم آنذاك بأن وطننا أصبح يتمتع بأربعين ألف طبيب، وعرضت عليهم الأفكار التي كانت تلهم سلوكنا. لن أقضي الوقت في تكرارها، فكثير منها مدرج في الكتاب، وليس بوسعي الآن أن أقوم بذلك بشكل أفضل ولا بعفويّة أكبر.

بعد إحدى عشر سنة من ذلك كان عدد الأطباء قد تضاعف تقريباً، وكانت المدرسة الأمريكية اللاتينية للطب، التي تأسست في شهر حزيران/يونيو من عام 1999، تتمتع بأكثر من عشرة آلاف طالب من المنطقة. كنا آنذاك قد شرعنا بالتعاون مع بلدان من العالم الثالث عبر توفير آلاف الأخصائيين في مجال الصحة، كما سبق ووعدنا في منظمة الأمم المتحدة في العام 1979، بعد قمة حركة بلدان عدم الانحياز التي التأمت في كوبا.

في شهر آب/أغسطس 2005 وقعت كارثة الإعصار "كاترينا"، الذي ضرب جنوب شرق الولايات المتحدة وأطلق عنان البحر ليقتحم أفقر أحياء مدينة نيو أورليانز. كانت هافانا على مسافة أقصر من المسافة التي تفصل هذه المدينة عن نيويورك وواشنطن وشيكاغو وبوسطن وغيرها كثير من مدن الولايات المتحدة. اتباعاً منّا للمبدأ الذي يرى بأن التعاون في لحظات الكوارث لا يقترن بالاختلافات الأيديولوجية، عرضنا مساعدتنا لإنقاذ أرواح بشريّة. أبلغنا ذلك فوراً لحكومة الولايات المتحدة.

أكتفي بتكرار ما اضطرت كوبا لشرحه بعد ذلك بأيام قليلة ضمن لقاء مع فرقة "هنري ريف"، في الرابع من أيلول/سبتمبر من تلك السنة:

"جموع يائسة من المواطنين الفقراء، أطفال وأمهات ونساء وأشخاص مسنّون يحتاجون لعناية طبية طارئة. في مثل هذا الوضع لا يهم مقدار ثروة أي بلد أو عدد علمائه أو قفزاته التقنية الكبيرة؛ ما يحتاج له الأمر في هذه اللحظة هو مهنيين شبان وجيدي التدريب، متمرّسين بفعل خبرتهم المجرّبة في العمل الطبي ضمن ظروف غير طبيعية، ممن يمكن إرسالهم على الفور جواً أو عبر أي طريق، إلى مبانٍ أو نقاط محددة، حيث يتعرض أبناء بشر لخطر الموت.

في حال كوبا، الواقعة على مسافة قصيرة من كل من لويزيانا والميسيسيبي وألاباما، توفّرت هذه الشروط الملائمة لتقديم الدعم للشعب الأمريكي. كان يمكن التبرع للولايات المتحدة في تلك اللحظة بآلاف الملايين من الدولارات من كل أرجاء العالم، من دون أن تتمكن بذلك من إنقاذ روح شخص واحد من أولئك الأشخاص المعرّضين في نيو أورليانز وغيرها من المناطق الحرجة لأخطار قاتلة في تلك اللحظات.

ليس بوسع كوبا أن تفعل الحد الأدنى مما يمكن فعله من أجل نجدة ملاحي مركبة فضائية أو غواصة نووية معرضة للخطر؛ بينما بإمكانها أن تقدّم لضحايا "كاترينا"، الذين يعانون خطراً وشيكاً بالموت، مساعدة هامّة وحيوية. وهذا هو ما فعلته منذ اللحظة الأولى، يوم الثلاثاء الثلاثين من آب/أغسطس في الساعة 12:45 ظهراً، في اللحظة التي لم يكن قد توقف فيها بعد هبوب الرياح أو هطول الأمطار. وهي لا تندم على ذلك، ولو أنه لم يتم حتى ذكر اسمها ضمن القائمة الطويلة للبلدان التي عرضت التضامن على الشعب الأمريكي. كنّا قد فعلنا ذلك بشكل متكتّم وبدون أي نوع من الدعاية.

... كنت على علم جيد جداً أن لدينا رجالاً ونساءً أمثالكم؛ تجرأت على تكرار العرض بعد ثلاثة أيام من ذلك، حيث وعدت بأنه يمكن أن يتواجد خلال أقل من اثنتي عشر ساعة في هيوستون الأطباء المائة الأوائل حاملين الموارد الحيوية معهم في الجعب؛ وبعد عشر ساعات أخرى، 500 طبيب آخرون؛ وبعد أقل من 36 ساعة أخرى، 500 طبيب غيرهم، ليصل مجمل عددهم إلى 1100، ممن يستطيعون إنقاذ حياة ولو شخص واحد من بين الأشخاص الكثيرين الذين كانوا في تلك اللحظات المأساوية يواجهون خطر الموت.

ربما اعتقد بعض الذين يجهلون شهامة شعبنا وروحه التضامنية بأن الأمر يتعلق ببالون إعلامي أو مجرّد مبالغة سخيفة. إن بلدنا لا يمازح أبداً في قضايا تبلغ كل ما تبلغه من الجدّية، ولا هو مارس أبداً عار المزايدة أو الكذب... في هذه القاعة، حيث تم الوقوف قبل ثلاثة أيام فقط دقيقة صمت تكريماً لضحايا الإعصار الذي ضرب هذا الشعب الشقيق...، ليس بألف ومائة طبيب وإنما 1586، بمن فيهم 300 كاحتياط، وأمام الأنباء التي أخذت تبعث قدراً أكبر من الجزع في كل لحظة تصل فيها... لقد أعلنّا عن استعدادنا لإرسال آلاف آخرين إذا ما استلزم الأمر. 24 ساعة كانت كافية لكي يتحرك باتجاه عاصمتنا من كل أنحاء البلاد مجموع الذين تمت دعوتهم من أجل القيام بالمهمة الموعودة. لقد نفذنا التزامنا بكل دقة واحترام للموعد.

إنكم تشرّفون المهنة الطبية النبيلة. وأنتم، باستجابتكم السريعة وبدون أي تردد، والمستعدون للقيام بالواجب في ظروف جديدة وصعبة، إنما تسطرون صفحة في تاريخ التضامن بين الشعوب، وترشدون الجنس البشري المعذّب والمهدَّد الذي ننتمي إليها جميعاً إلى طريق السلام.

معدل أعمار أفراد الطاقم هو 32 سنة –الأغلبية الساحقة منهم لم تكن قد ولدت عندما انتصرت الثورة، والعديد منهم لم يكن قد ولد حتى ما بعد 15 سنة من انتصار الثورة، إنما كل هذا هو ثمرة هذه السنوات القاسية-، ومعدّل الخبرة في الممارسة المهنية لا يقل عن عشر سنوات...

قائد الجمهوريين في مجلس الشيوخ، هيل فيرست، الذي يتواجد في نيو أورليانز، اعترف بأن ‘الأطباء والممرضات يقومون بعمل جبّار، ولكن ما تزال هناك مشكلة خطيرة في عملية توزيع الرعاية‘، وأن ‘عشرات الأشخاص يموتون يومياً‘.

واستناداً إلى صحيفة "بوسطن غلوب" (Boston Globe) فإن لويزيانا والميسيسيبي تواجهان الآن أسوأ كارثة صحية عرفتها البلاد منذ عقود كثيرة.

ونشرت الصحيفة عينها تصريحات للدكتور مارشال بولدين، مدير قسم السكري والأيض في المركز الطبي الجامعي في الميسيسيبي ‘جاكسون‘، الذي قال: ‘الفرصة متاحة لدينا لرؤية أمور لم يسبق لنا أن رأيناها منذ سنوات كثيرة: الكوليرا، حمى التيفوئيد، الكزاز، الملاريا. لم يسبق لنا أن رأينا مثل هذه الظروف منذ خمسين سنة. إن الناس مكدّسون ويسيرون بين الغائط‘...

جعب أطباءنا تحتوي بالذات على تلك الموارد اللازمة للمواجهة الميدانية لمشكلات لها علاقة بالتجفف وارتفاع ضغط الدم وارتفاع السكر في الدم والالتهابات في أي مكان من جسم الإنسان: الرئتين، العظام، الجلد، الأذن، المسالك البولية، الجهاز التناسلي، الجهاز الهضمي... أدوية تخفف من حدة الألم وتخفض الحرارة... لمعالجة ربو القصبة الشعبي وغيرها من المشكلات المشابهة مع أربعين منتج بالكاد هي ذات فاعلية مجرّبة في مثل هذه الأوضاع الطارئة.

تتمتع كوبا بالسلطة الأخلاقية التي تسمح لها بإبداء رأيها حول الموضوع والتقدم بهذا العرض. فهي تتمتع اليوم بأعلى مؤشر لعدد الأطباء مقابل عدد السكان بين كل بلدان العالم، ولم يقم أي بلد آخر بتعاون أكبر مع شعوب أخرى في مجال الصحة.

إن فرقة "هنري ريف" قد تشكّلت، وأيا كانت المهمات التي تتولونها في أي مكان من العالم أو في وطننا نفسه، ستحملون دائماً مجد الاستجابة الشجاعة والكريمة لنداء التضامن مع شعب الولايات المتحدة الشقيق، وخاصة مع أفقر أبنائه.

إلى الأمام، أيها المدافعون الشهماء عن الصحة والحياة، قاهرو الألم والموت!".

هذا ما قلته قبل نحو أربع سنوات. الصفحات التي سطرتها فرقة "هنري ريف"، حيثما نفّذت أو تنفّذ مهمّة، كانت وفيّة لهه الكلمات وشاهداً عليها.

بما أنه في التاريخ يبدو كل مركّب في بعض الأحيان وكأنه صُنع على المقاس ليثبت قناعة إنسانية ما، تلقيت قبل أيام قليلة نسخة من مقال نشره في أوروبا وزير صيد الأسماك الناميبي الذي زار بلدنا مؤخراً. إدراج المقالة في هذه المقدّمة هو طريقة للتعبير له عن تقديري لكلماته؛ سأستخدم فقط بعضاً من فقراته الأساسية توفيراً للمساحة والوقت.

"أنا ثمرة الثورة الكوبية. الناميبيون يشكرون كوبا إلى الأبد لأنها أمة تضامنية ذات مبادئ ثابتة وصداقة حقيقية تجاه ناميبيا. لقد وهب الكوبيون دماءهم من أجل حرية واستقلال ناميبيا.

في عام 1977 غادرتُ ناميبيا إلى أنغولا. اجتمعت للمرة الأولى مع الأمميين الكوبيين في كاسّيغا. في تلك اللحظة كنت أعرف القليل عن كوبا وعن شعبها.

بصفتنا طلائع، تعلّمنا على يد قادة ‘سوابو‘ في المنفى عن الدافع لوجود الأمميين الكوبيين في أنغولا؛ مما جعلنا، كأطفال، نفكر بشكل عميق.

كان الكوبيون قد هبوا طوعاً لمساعدة بلدٍ يحتاج لتلك المساعدة. كانوا هم يضحّون بأرواحهم من أجل إنقاذ أرواحنا وحفظ السلام في أنغولا. وقد شكّل هذا إلهاماً كبيراًَ لنا، نحن الذين أتينا من ناميبيا المستعمَرة.

بينما كنّا نحن في شيبيا، قام نظام الأبارتهيد في جنوب أفريقيا بغزو أنغولا ومهاجمة كاسّيغا، بلا رحمة، حيث قتَل كثيرين من الناميبيين العزّل. لاحظنا الاهتمام والبسالة اللذين جاءت القوات الأممية الكوبية بهما لنجدتنا.

ذهبت إلى كوبا عام 1978، إلى جانب طلائع آخرين من ‘سوابو‘. كنّا نشعر بالاندفاع والفضول. لم يسبق لنا أبداً أن رأينا أطفالاً كوبيين، وكنّا تواقين جداً للالتقاء بهم.

نحن طرنا من لواندا، العاصمة الأنغولية، إلى هافانا. بعضنا خرج إلى جزيرة خوبينتود... إلى مدرسة أقيمت خصيصاً لكي يتلقى الأطفال الناميبيون علومهم فيها. اختلطوا في الجزيرة مع تلاميذ من نيكاراغوا وجنوب أفريقيا وموزمبيق وأنغولا والكونغو والرأس الأخضر وجبهة البوليساريو. لم يفعل أي بلد آخر، كبيراً كان أم صغيراً، ما فعلته كوبا من أجل تعليم الفتية من بلدان مختلفة، مع الأخذ بعين الاعتبار احتياجاتهم الفعلية.

الرفيق هيلموت أنغولا كان قائد وممثل منظمة ‘سوابو‘ في كوبا. كانت تقع عليه مسؤولية إرشادنا عما يتوجب علينا دراسته وأين نفعل ذلك. كنت أنا أريد أن أدرس طياراً أو رجل فضاء، ولكنه قرر أن من واجبي دراسة كيمياء المواد الغذائية.

حين استكملت دراستي لكيمياء المواد الغذائية، عام 1981، تم تكريمي بصفتي الطالب الأبرز في المدرسة. عدت إلى أنغولا عام 1981. وفي عام 1984، أرسلتني ‘سوابو‘ إلى المملكة المتحدة لإجراء دراسات في العلوم. عندما وصلت إلى المملكة المتحدة تيقّنت بأن معلومات كثيرين من طلاب جامعتي عن كوبا كانت معلومات مشوّهة. شكّلتُ مجموعة مع طلاب آخرين من أمريكا اللاتينية من أجل تقويم هذا الوضع. أجريت دراسات بالكيمياء الحيوية، مع التركيز على صيد الأسماك البحرية، وحصلت على شهادة ‘إجازة في العلوم‘ و‘دكتوراه‘ في هذا المجال نفسه.

أدين بموقعي الحالي في المجتمع للشعب الناميبي، الذي ضحّى بحياته وكافح ببسالة من أجل تحرير البلاد. ولكنني أدين بكل شيء أيضاً للثورة الكوبية. فمنذ عام 1997 وحتى هذا اليوم أنا وزير صيد الأسماك والموارد البحرية في ناميبيا؛ وما كان لهذا أن يتحقق بدون مساعدة كوبا".

مجلة "نيو أفريكان" (New African)، التي تصدر في أوروبا وتُعنى بمواضيع أفريقية، تؤكد في عددها الـ 472، الصادر في نيسان/أبريل 2008، أنه خلال عقدي السبعينات والثمانينات أرسلت كوبا 350 ألفاً من أبنائها، بمن فيهم مدنيين وأطباء، لدعم نضالات التحرر الأفريقية، وخاصة في أنغولا وناميبيا وموزمبيق وغينيا بيساو والرأس الأخضر وساو توميه وبرينس. لقد عجّل الجهد الكوبي، على المدى الطويل، في اندثار نظام الفصل العنصري (الأبارتهيد) في جنوب أفريقيا. كان نيلسون مانديلا في السجن حين قامت كوبا، ومن الجهة الأخرى للمحيط الأطلسي، بإرسال تلك القوة.

ماذا يتوجّب أن يكون عليه أحد أهداف هذه السطور التي أكتبها لأصدقائي البوليفيين القدامى؟ إسقاط القناع عن الأساليب الغادرة والدنيئة التي تتبعها الإمبراطورية.

العدو هو على درجة بالغة من الدناءة. إنه يرتكز إلى غرائز وأطماع وغرور أولئك الذين لم يعرفوا أبداً الحدّ الأدنى من الخلقية.

لقد ارتكب في بلدنا كل نوع من أنواع الجرائم؛ نظّم عصابات، أدخل أسلحة ومواد متفجرة بشكل واسع، غزا أراضينا الوطنية بواسطة مرتزقة وصلوا إلى شواطئنا بحراسة حاملة طائرات وسفن حربية وناقلات مشاة بحرية أمريكية جاهزة للدخول في المعركة حالما تمكّن باعة الوطن من احتلال نقطة ينطلقون منها؛ هاجم قواعدنا الجوية بطائرات رُسمت عليها الرموز الكوبية لتظهر وكأنه تمرد من قبل سلاح الجو.

مئات الشبان الثوار فقدوا أرواحهم أو أصيبوا بجراح وهم يقاتلون ببطولة المرتزقة الذين وصلوا بحراً وجواً. بعدما تم أسرهم بصورة جماعية، لم يتعرض أي من الغزاة للقتل، ولم يتم تعذيب أي منهم.

جاءت بعد ذلك فترة طويلة من النضال ضد أساليب الإمبراطورية القذرة، التي شملت الحصار الاقتصادي والتهديد الدائم بالعدوان المباشر ومحاولة اغتيال القادة والحرب الجرثوميّة والخطر الشديد بوقوع حرب نووية بين القوتين العظميين، حيث أوشكت على الانفجار. غير أن كوبا قاومت وتواصل مقاومتها بعد نصف قرن من الكفاح.

لا نسعى لأن نكون نموذجاً في بناء الاشتراكية، وإنما نعم في الدفاع عن الحق ببنائها.

أمثلة ملموسة على الدناءة:

وقع إرهابي في الأسر، وعُثر بحوزته على مواد متفجرة وجُمعت الأدلّّة اللازمة لمحاكمته؛ وحُكم عليه بالسجن لعدة سنوات. ادعى بأنه مقعد وعاجز عن القيام بأي حركة. وكالة الاستخبارات المركزية قامت بتدبير العملية. كتبوا الشعر باسمه ونشروا له ديواناً شعرياً، وأظهروا أمام العالم على أنه شاعر معاق ويفتقد للعناية الطبية؛ أجاد هو التمثيل لدرجة أنه أربك موظفي السجن أنفسهم. فهم يضللون ويخدعون الرأي العام العالمي عبر مواردهم الإعلاميّة، ولم يأت مبعوث خاص من مبعوثي قادة "الديمقراطية الغربية" إلا وطالب بالإفراج عن الشاعر المعاق. وكان الأطباء قد أكدوا بأنه لا يعاني من أي مشكلة طبية.

بعدما تم إطلاعه على الحقيقة التي تم تصويرها له وهو يجري تمرينات يومية مليئة بالحيوية في أماكن بعيدة عن أنظار الحراس، قبيل تنفيذ طلب من بلد أوروبي هام، نهض كالزنبرك، وبعد ذلك بأربع وعشرين ساعة ركب الطائرة وهو يسير برفقة آخر مبعوث أوروبي متوجهاً إلى فردوس الديمقراطية والوفرة. كان بانتظاره منصب كموظف للإمبراطورية في مؤسسة دولية تُعنى بحقوق الإنسان. إنه الثمن الذي توجّب على كوبا دفعه للحكومات البرجوازية التي حافظت، في خضم الحصار اليانكي الوحشيّ، على علاقات اقتصاديّة مع وطننا.

يتميّز الكوبيون أنهم تولّدوا في بلد هو، وبفضل الثورة، أول بلد ينفذ أهداف الألفية من ناحية التعليم: الجميع يجيدون القراءة والكتابة. ليس هناك من أطفال معاقين، بمن فيهم فاقدي حاسة السمع والقدرة على النطق، أو ضعيفي بصر أو أكفّاء، لا يتلقون رعاية؛ الخدمات التعليمية والصحية تجتمع من أجل حمايتهم وتشجيعهم، بالرغم من الصعوبات التي وصلوا بها إلى العالم.

إذا كان المؤلف المزعوم المعادي للثورة يتمتع بمزايا في الكتابة الروائية أو التعبيريّة، لا ينبغي عليه القلق بالنسبة لنشر الكتب أو إيجاد الأسواق؛ فالهيئات التجسسية لدى الإمبريالية يكفيها منه أن يخترع أي شيء مأساوي ويتهم الثورة بمسؤوليتها عنه. سيحظى بالمال وبالشهرة أيضاً، وأعماله ستنال جوائز وتُنشر على هواه. إنها إهانة حقيقية للمثقفين ورجال الفكر.

إن كوبا تؤهل رياضيين، وتفوز بعدد من الميداليات الذهبية أكبر مما يفوز به أي بلد آخر بالنسبة لعدد النسمات، وتعمّم الرياضة بما في الخير لصحة مواطنيها؛ البلدان الغنية تلاحق هؤلاء الرياضيين عبر عرض كل ما يمكن عرضه عليهم من المال، وهكذا تحصل على لاعبين لتشكيل فرقها من مجنّسين أصحاب بشرة هنديّة حمراء أو خلاسيّة أو زنجيّة لا تشبه في شيء ما يُزعم بأنها أعراق متفوّقة.

عندما انهار الاتحاد الأوروبي، أملت مديرة مركزٍ للإنعاش في أن تتحول إلى صاحبة تلك المؤسسة، على غرار ما فعله بعض زملائها في ذلك البلد، اعتقاداً منها أنه ليس بوسعنا أن نقاوم، تم اكتشاف أمرها وإقالتها. اخترعت النظرية التي تقوم بأن مردّ ذلك هو اعتراضها على استخدام الخلايا الأم ذات المصدر البشري في الأبحاث. لم تتكلم عن ذلك أبداً. أحد أبنائها، وملفه المهني ليس لامعاً في شيء، كان يعمل معها في المركز. انتهك الأعراف الخلقية التي تمنع إقامة علاقات جنسية مع مرضى أو مرافقين لهم. وهو المختل أخلاقياً، غادر إلى البلد الأصلي للسيدة، حيث تحوّل إلى أخصائي في الطب الطبيعي لا غنى عنه في العناية بموظفين هامّين. مادة رائعة للابتزاز الإمبريالي لكوبا!

تم رفض طلبها السفر إلى الخارج. لا ينبغي الخضوع للابتزاز؛ هذا ما كان عليه القرار.

كإرث للفكر الثوري، ترك تشي مبدأ إستراتيجياً حين أكد، وهو عاقد الحاجبين ويومئ بخنصر يده اليمنى، في خطاب أمام الأمم المتحدة: "لا يمكن إعطاء الإمبريالية ولا هذا القدر".

كان على وشك الانطلاق مع حفنة من الأمميين الكوبيين إلى الكونغو البلجيكية سابقاً، حيث اغتيل لومومبا على يد الإمبريالية أمام ناظر قوات الأمم المتحدة واحتل منصبه دمية فاسد. أفكاره عن واقع العالم خضعت للامتحان.

في أحد الأيام، في احتفال حاشد أقيم في ساحة الثورة في الثامن عشر من تشرين الأول/أكتوبر 1967 تكريماً لتشي، الذي أصيب في المعركة ثم أطلق عليه عيار قاتل قبل ذلك الموعد بأيام قليلة، عبّرت أمام الشعب الذي أثار الخبر مشاعره عن بعض الأفكار الأساسية التي أودّ إدراجها حرفياً ضمن هذه السطور:

"... في شهر تموز/يوليو أو آب/أغسطس تعرفنا إلى تشي. وخلال ليلة واحدة –كما يحكي هو في كتاباته- تحوّل إلى عضو مستقبلي في حملة يخت ‘غرانما‘. ولكن في تلك اللحظة لم يكن عندي أنا قارباً ولا أسلحة ولا قوات. وكان على هذا النحو أن شكل تشي، إلى جانب راؤول، المجموعة المكوّنة من أول رجلين لقائمة ‘غرانما‘.

... كان أحد أكثرهم دماثة، أكثرهم محلاً للإعجاب، من أحبّهم، وبدون شك، الأكثر تفوقاً على العادية بين رفاقنا الثوار.

كان تشي من أولئك الأشخاص الذين يحبهم الأشخاص على الفور، لبساطته، لطبعه، لطبيعيّته، لروحه الرفاقية، لشخصيته، لأصالته...

كان يبدو مشبعاً بروح من الحقد والازدراء العميقين للإمبريالية... كانت الفرصة قد أتيحت له ليشهد في غواتيمالا التدخل الإمبريالي المجرم من خلال الجنود المرتزقة الذين أودوا بثورة ذلك البلد".

... ربما تكون أثرت بشكل عميق في سلوكه الفكرة القائلة بأن للرجال قيمة نسبية في التاريخ، الفكرة القائلة بأن القضايا لا تُهزم حين يسقط الرجال وأن المسيرة الجامحة للتاريخ لا تتوقف ولن تتوقف عندما يسقط القادة.

... بوسعي القول أنه من نوع أولئك الرجال الذين يصعب التساوي بهم، ومن المستحيل عملياً التفوق عليهم.

... حين نفكر بتشي، لا نفكر نحن بفضائله العسكرية. لا! الحرب هي أداة للثوار، المهم هو الثورة، القضية الثورية، الأفكار الثورية، الأهداف الثورية، المشاعر الثورية، الفضائل الثورية!

كان تشي رجلاً صاحب فكر عميق، صاحب ذكاء ثاقب النظر، صاحب ثقافة عميقة. كان يجمع في شخصه رجل الأفكار ورجل العمل.

كان تشي يجمع الفضائل التي يمكن تعريفها بأنها التعبير الأكمل عن الثوري: رجل ذو عفاف سامي، صدق مطلق، لا يمكن العثور في سلوكه على لطخة واحدة.

عامل لا يكلّ، خلال السنوات التي خدم خلالها وطننا، لم يعرف يوم راحة واحد.

... كان يدرس كل المشاكل، قارئاً لا يكلّ. ظمأه للإلمام بالمعارف البشرية لم يكن بالوسع ريّه عملياً، والساعات التي كان يقتنصها من النوم كان يخصصها للقراءة. الأيام المتعارف عليها كأيام عطلة كان يخصصها للعمل التطوعي. كان الملهم والمحرّك لهذا العمل...

الجانب الضعيف عند العدو الإمبريالي: ظنّه أنه بتصفيته للرجل جسدياً إنما قضى على فكره، قضى على أفكاره، قضى على فضائله، قضى على نموذجه.

إننا على قناعة مطلقة بأن القضية الثورية في هذه القارة ستتعافى من هذه الضربة، وأنها لن تهزم نتيجة هذه الضربة.

... أقول من صميم قلبي بأن هذا النموذج الذي لا لطخة واحدة في سلوكه، لا لطخة واحدة في تصرفه، لا لطخة واحدة في عمله، هو تشي! إذا أردنا أن نعبّر كيف نريد لأبنائنا أن يكونوا، من واجبنا أن نقول بحدة ثورية: نريدهم أن يكونوا كتشي!

لم يحمل أي رجل في هذا العصر الروح الأممية إلى أسمى مستوياتها كما حملها هو!

كانت قد اختفت في ذهنه وفي قلبه الرايات والأحكام المسبقة والشوفينية والأنانية، كان مستعداً لوهب دمه الزكي من أجل أي شعب كان!

دماؤه نزفت في بوليفيا فداءً للمستغَلّين والمضطهَدين، والمحرومين والفقراء. تلك الدماء نزفت من أجل كل شعوب القارة الأمريكية!

... لهذا السبب علينا أن ننظر إلى المستقبل بتفاؤل".

بعد تلك الليلة الحية في الذاكرة التي قلت فيها هذه الكلمات، تلقفت منظمة الطلائع جوهر الفكرة وأطلقت شعاراً: "طلائع من أجل الشيوعية، سنكون كتشي!".

كان "الجيش الثائر" قد تولّد من رماد الفصيلة التي جاء بها يخت "غرانما" وكسبت الحرب بالأسلحة التي جرّدت العدوّ منها في المعركة. كان تشي شاهداً استثنائياً ومشاركاً في الضربة المضادة التي تمكّن بها الطابور رقم واحد "خوسيه مارتيه"، في سلسلة جبال سييرّا مايسترا، وقد تعزز بوحدات صغيرة من طوابير أخرى، ولم يكن عدد عناصرها مجتمعين يتجاوز الـ 300 رجل، من تهشيم آخر هجوم شنته الحكومة العسكرية الموالية للولايات المتحدة في كوبا، التي أنزلت عشرة آلاف رجل من قواتها النخبة للهجوم على ذلك الحصن.

كان على أثر المعارك الأولى من تلك الحرب غير المتوازية، وعند مشاهدتي للقنابل المعادية تسقط على منازل الفلاحين، أن تكهّنت بأن الكفاح ضد الإمبراطورية سيكون قدري الحقيقي.

تذكّرت شهيد دوس ريّوس، بطنا الوطني خوسيه مارتيه، وتذكرت تشي حين قرأت قبل أيام قليلة برقية للمبعوث الخاص لوكالة "نوتيمكس"، مؤرخة في السادس والعشرين من أيار/مايو، يعكس فيها تصريحاً لشابة كوبية كانت قد طلبت تصريحاً للسفر من أجل تلقي إحدى الجوائز الكثيرة التي تشجع الإمبريالية منحها لتحريك مياه طاحونتها:

"... إذا كانت السلطات الكوبية تعتقد أن رفضها منحي التصريح للسفر من أجل تلقي الجائزة هو نوع من العقاب، فإن الأمر لم يكن مأساوياً البتة.

لقد احتفلت بذلك اليوم هنا في منزلي، مع عائلتي وأصدقائي، الذين سلّموني رمزياً رقّ صنعته بنفسي...

أشتري بطاقة إنترنيت، تتراوح قيمتها بين خمسة وسبعة دولارات، لإرسال كتاباتي...

أنا لست معارضة، ليس لدي برنامجاً سياسياً، ولا حتّى أفضّل لونا سياسياً، وهذه إحدى سمات جيلي وسمات عالم اليوم؛ لم يعد الناس يعرفون أنفسهم بأنهم من اليسار ولا من اليمين، إنها مفاهيم يأكل الزمن عليها يوماً بعد يوم...

لا أنتمي ولا أفكّر بالانتماء أبداً لأي فريق سياسي، لم أكن أبداً عضواُ في الشبيبة الشيوعية، ولم أحاول أبداً الانتماء إلى الحزب الشيوعي، كنت طليعية لأنه كان علينا جميعاً أن نكون كذلك حتى بلوغ السادسة عشرة...

تسجل صفحتي الإلكترونية رقماً قياسياً في عدد التعليقات المريعة التي تخيفني...

لا أتمتع بحماية اجتماعية ولا معاش حين يتقدّم بي العمر، وإنما بما يسمح لي بالمحافظة على استقلاليتي الاقتصادية. أعطي دروساً باللغة الإسبانية لأجانب وأقوم بإرشاد سياحي في مدينتي، أتكلم اللغة الألمانية بطلاقة. هكذا أكسب لقمة عيشي".

الخطير في الأمر ليس التأكيدات من هذا النوع، التي تشيعها الوسائل الصحفية الإمبريالية على الفور، وإنما تعميمها كشعار؛ وما هو أسوأ من ذلك: أن يكون هناك شبان كوبيون يفكّرون بهذه الطريقة، مبعوثون خاصّون للقيام بعمل تقويضي وصحافة نيوكولونيالية من الدولة الإسبانية المستعمِرة السابقة تسمح بذلك.

أصحاب التضحية الأكبر داخل كوبا وخارجها هم أعضاء في الحزب. ما يشكل خياراً بالنسبة لآخرين، إنما هو يشكل واجباً بالنسبة لهم. وهذا ما يثبته الشعب حين يختار المرشحين لمنصب مندوب للسلطة الشعبية. من أجل القيام بالثورة، شكّل مارتيه حزباً قبل أن يفعل ذلك لينين نفسه. لهذا لم يتم إلحاقنا بالولايات المتحدة. لهذا كوبا موجودة بجذورها وثقافتها.

دليل آخر على التضليل والخداع اللذين تزرعهما الإمبريالية تمثل في التصريح الذي أدلى به فنان برازيلي معروف في ذات اليوم الذي نُشرت فيه البرقية المذكورة.

"إذا تحدثنا عن الكيفية التي يجري بها السهر على الحقوق ومسائل الحرية واحترام الإنسان، فإنني أقف مائة بالمائة إلى جانب الولايات المتحدة أكثر من وقوفي إلى جانب كوبا.

وأبلغت وكالة أنباء أوروبية أن "الفنان شرح إدراج موضوع غير مسبوق، ‘خليج غوانتانامو‘، ضمن أغنيات عرضه الفني الحيّ، الذي قدّمه في ريّو دي جانيرو بعد فضيحة انتهاكات حقوق الإنسان بحق الأسرى بتهمة الإرهاب.

وصرّح الفنان: ‘لو كنت أنا نوعاً من الأشخاص اليساريين الموالين لكوبا، والمعادين للولايات المتحدة، لما شعرت بأي إحباط مما حدث في سجون غوانتانامو‘".

بإيجاز: الفنان البرازيلي طلب المعذرة من الإمبراطورية على انتقاده للأعمال الوحشية المرتكبة في تلك القاعدة البحرية في الأراضي المحتلة من كوبا.

شهر حزيران/يونيو بالكاد يبدأ. تسود الريبة واللاطمأنينة.

أرجو من القرّاء البوليفيين أن يتحلّوا بالصبر وبالحس الفكاهي اللذين لمعوا بهما عندما تحدثت إليهم قبل 15 سنة من اليوم. واصِلوا دفع البرامج التعليمية والصحية. وبإمكانكم الاعتماد دائماً على تعاوننا.

لولا الطبعة الجديدة من الكتاب، لافتقدت هذه التوطئة الطويلة لأي هدف.

شكراً.

فيدل كاسترو روز

4 حزيران/يونيو 2008