تأملات الرفيق فيدل

حقيقة ما حدث في القمة

المستقبل يهم الشباب أكثر مما يهم أي أحد آخر.

حتى ما قبل فترة وجيزة من الزمن كان الجدل يجري حول نوع المجتمع الذي نعيش فيه. واليوم يدور الجدل حول ما إذا كان المجتمع الذي نعيش فيه إنسانياً.

لا يتعلق الأمر بعبارات مأساوية. لا بد من الاعتياد على الوقائع الفعلية. آخر ما يمكن للإنسان أن يفقده هو الأمل. والحقيقة بين أيديهم، خاض رجال ونساء من كل الأعمار، وخاصة منهم الشبان، معركة نموذجية في القمة، وأعطوا درساً كبيراً للعالم.

الأهمّ الآن هو الكشف على أوسع نطاق في كوبا وفي العالم عمّا حدث في كوبنهاغن. للحقيقة قوة تتجاوز الذكاء الذي تعكسه وسائل الإعلام، والمضلِّل في كثير من الأحيان، عند الذين يوجد مصير العالم بين أيديهم.

إذا كان هناك من أمر هام تم تحقيقه في العاصمة الدانماركية، فهو أن الرأي العام العالمي تمكن من خلال وسائل الإعلام من ملاحظة الفوضى السياسية التي حدثت والمعاملة المذلّة التي وجدها رؤساء دول وحكومات. ممن توجهوا إلى مقرّ قمة كوبنهاغن مصحوبين بالآمال والأحلام. القمع الهمجي الذي تعرض له المتظاهرون المسالمون من جانب قوات الأمن، ذكّرنا بسلوك القوات الهجومية النازية التي احتلّت جارتها الدانمارك في شهر نيسان/أبريل من عام 1940. ما لم يكن يتصوّره أحد هو أن تقدم الحكومة الدانماركية –حليفة حلف الناتو وشريكته في مجزرة أفغانستان- على رفع أعمال القمة في الثامن عشر من كانون الأول/ديسمبر، وهو اليوم الأخير من انعقادها، لكي تسلّم القاعة الرئيسية للمؤتمر إلى الرئيس أوباما، ينحصر فيها حق الكلام عليه وعلى مجموعة مختارة من المدعوّين يبلغ عددهم الإجمالي 16. لقد ألقى أوباما خطاباً مخادعاً وديماغوجياً، مليئا بالغموض ولا يترتب عنه أي التزام ملزِم ويتجاهل معاهدة كيوتو الإطار. غادر القاعة بعدما أصغى إلى بعض الخطباء الآخرين. من بين المدعوّين للتحدث كانت البلدان الصناعية، والعديد من البلدان ذات الاقتصاديات الصاعدة وبعض آخر من أفقر البلدان على وجه البسيطة. قادة وممثلو أكثر من 170 بلد آخر لم يكن لهم حق آخر غير حق الإصغاء.

في نهاية خطاب الستة عشر المختارين، طلب الكلمة إيفو موراليس، وذلك بكل السلطة التي يمنحها له أصله الهندي-أيمارا، وانتخابه حديثاً بأغلبية 65 بالمائة من الأصوات ودعمه من قبل ثلثي أعضاء مجلسي النواب والشيوخ البوليفيين، لم يكن هناك من خيار آخر أمام الرئيس الدانماركي غير تلبية طلبه أمام التأييد الذي وجده من قبل باقي الوفود. عندما انتهى إيفو من قول عباراته الحكيمة والعميقة، اضطر  الدانماركي لإعطاء الكلمة لهوغو تشافيز. كلا المداخلتان ستدخلان التاريخ كنموذجين على الخطابات الوجيزة والملائمة. بعدما قاما بمهمتهما على أكمل وجه، غادر كل منهما عائداً إلى بلده. ولكن عندما غادر أوباما المحفل لم يكن قد قام بعد بمهمته في البلد مقر انعقاد القمة.

منذ ليلة السابع عشر وفجر الثامن عشر، كان رئيس الوزاء الدانماركي وكبار الموظفين الأمريكيين يعقدون اجتماعات مع رئيس المفوّضيّة الأوروبية وقادة 27 بلداً ليقترحوا عليهم مشروع اتفاق باسم أوباما لم يشارك في إعداده أي من باقي زعماء باقي العالم. تلك المبادرة كانت مبادرة لاديمقراطية وأشبه ما تكون بالسرّيّة، تتجاهل آلاف الممثلين عن الحركات الاجتماعية والمؤسسات العلميّة والدينية وباقي المدعوّين إلى القمة.

على مدار ليلة الثامن عشر وحتى الساعة الثالثة من فجر التاسع عشر، بعدما كان عدد كبير من رؤساء الدول قد غادروا، كان ممثلو البلدان بانتظار استئناف الجلسات واختتام المحفل. على مدار يوم 18 عقد أوباما اجتماعات ومؤتمرات صحفية. ذات الشيء فعل القادة الأوروبيون، ثم انصرفوا بعد ذلك.

آنذاك حدث أمر غير معهود: في الساعة الثالثة من فجر يوم 19 دعا رئيس الوزراء الدانماركي لعقد اجتماع لاختتام القمة. كان ما يزال هناك وزراء وموظفون وسفراء وطاقم من الفنيين يمثلون بلدانهم.

غير أنها كانت مدهشة المعركة التي خاضتها فجر ذلك اليوم مجموعة من ممثلي بلدان العالم الثالث، ممن طعنوا بمحاولة أوباما وأغنى أغنياء الأرض إظهار الوثيقة المفروضة من قبل الولايات المتحدة على أنها اتفاق للقمة بالتوافق.

بحمية مدهشة، رفعت ممثلة فنزويلا، كلاوديا ساليرنو، يدها اليمنى، التي سال الدم منها بفعل القوة التي ضربت بها على الطاولة طلباً لممارسة حقها بالكلام. لا يمكن نسيان نبرتها ولا نزاهة حججها.

وزير العلاقات الخارجية الكوبي ألقى خطاباً شديد اللهجة قوامه نحو ألف كلمة، أختارُ منه بعض الفقرات التي أودّ إدراجها في هذا التأمل:

"الوثيقة الذي أكدتم حضرتكم مرات عدة بأنه لا  وجود لها، سيدي الرئيس، ظهرت الآن. [...] لقد رأينا طبعات جرى تداولها في الخفاء ومناقشتها في غرف صغيرة خلف الستار...

[...] تؤسفني بشكل بالغ الطريقة التي أدرتم وتديرون بها أعمال المؤتمر.

[...] ترى كوبا بأن نص هذا المشروع المزوّر هو نص بالغ القصور وغير مقبول. إن الهدف المتمثل بتحقيق خفض بنسبة درجتين مئويتين هو هدف غير مقبول وسيكون له نتائج لا تُحمد عواقبها.

[...] الوثيقة التي تعرضونها حضرتكم، وللأسف، لا يترتب عنها أي التزام بخفض الانبعاثات من غازات الدفيئة.

أعرف أيضاً الطبعات السابقة التي جرت مناقشتها في غرف مغلقة من خلال إجراءات موضع شك وبصورة سريّة.

[...] اختفت من الوثيقة التي تعرضونها الآن بالذات العبارات الضعيفة والناقصة الرئيسية التي وردت في تلك الطبعة.

[...] إنها بالنسبة لكوبا وثيقة لا تنسجم مع وجهة النظر المعترَف بها عالمياً، والتي ترى في ضمان مستويات من التقليص لا تدنو عن الـ 45 بالمائة من الانبعاثات في عام 2020 ولا تدنو عن 80% أو 90% في عام 2050 أمراً عاجلاً ولا مفرّ منه.

أي طرح عن مواصلة المفاوضات في سبيل اعتماد معاهدات لتقليص الانبعاثات في المستقبل يجب أن تشتمل حتماً على مفهوم نفاذ معاهدة كيوتو [...]. إن دوركم كرئيس هو دور الإعلان  عن دفن معاهدة كيوتو، وهو ما يرفضه وفد بلادي.

يودّ الوفد الكوبي أن يركّز على سؤدد مبدأ ‘المسؤوليات المشتركة ولكن المتباينة‘، كمفهوم مركزي لعملية المفاوضات المستقبلية. لا يذكر دوركم كلمة واحدة عن ذلك.

تغيب عن مشروع البيان هذا التزامات محددة بتمويل وتحويل التكنولوجيا إلى البلدان النامية كجزء من تنفيذ الواجبات التي التزمت بها البلدان المتقدمة بموجب معاهدة الأمم المتحدة حول التغير المناخي [...]. والبلدان المتقدّمة، التي تفرض مصالحها من خلال وثيقتكم، سيدي الرئيس، تتهرّب من أي التزام محدّد".

[...] سيدي الرئيس، إن ما تسمّونه ‘مجموعة من الزعماء التمثيليين‘ هو بالنسبة لي انتهاك فظّ لمبدأ المساواة في السيادة الذي يكرّسه ميثاق الأمم المتحدة.

[...] سيدي الرئيس، أطلب منكم رسمياً بأن يتم إدراج هذا التصريح ضمن التقرير النهائي لأعمال هذا المؤتمر الخامس عشر المؤسف والمخجل للأطراف".

لم تكن قد أعطيت سوى ساعة واحدة لممثلي الدول لكي يعبّروا عن آرائهم، الأمر الذي تسبب في نشوء أوضاع معقّدة ومخجلة ومقيتة.

حدث آنذاك نقاش طويل مارست خلاله البلدان المتقدّمة ضغطاً كبيراً لجعل المؤتمر يعتمد الوثيقة المذكورة كنتيجة نهائية للمداولات.

مجموعة صغيرة جداً من البلدان أكّدت بثبات على الإغفالات الكبيرة والغموض في الوثيقة التي دفعت بها الولايات المتحدة، وبشكل خاص على غياب الالتزام من جانب البلدان المتقدمة في ما يتعلق بخفض الانبعاثات الكربون والتمويل اللازم من أجل اتخاذ بلدان الجنوب لإجراءات تخفيف وتكيّف.

بعد مناقشة طويلة وبالغة التوتر، ساد موقف بلدان مجموعة "ألبا" والسودان، بصفتها رئيساً "لمجموعة 77" بن الوثيقة المذكورة هي وثيقة غير مقبولة من أجل اعتمادها من قبل المؤتمر.

أمام الانعدام الواضح للتوافق، اكتفى المؤتمر "بأخذ علم" بوجود هذه الوثيقة كموقف لمجموعة يبلغ تعداد بلدانها نحو 25.

بعد هذا القرار المتخذ في الساعة العاشرة والنصف صباحاً، بتوقيت الدانمارك -وبعدما بحث إلى جانب ممثلين آخرين عن مجموعة "البا" بودّية مع الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة وعبّروا له عن الاستعداد للكفاح إلى جانب الأمم المتحدة من أجل درء خطر النتائج المريعة للتغير المناخي-، غادر برونو برفقة نائب الرئيس الكوبي، إستيبان لازو، إلى بلدنا للمشاركة في اجتماع الجمعية الوطنية للسلطة الشعبية،، منهيين بذلك مهمتهما، مكث في كوبنهاغن بعض أعضاء الوفد والسفير من أجل المشاركة في الإجراءات النهائية.

عصر هذا اليوم أبلغوا ما يلي:

"[...] سواء الذين شاركوا في إعداد الوثيقة، كما الذين أعلنوا سلفاً –مثل رئيس الولايات المتحدة- عن اعتمادها من قبل المؤتمر....، بما أنه لم يكن بوسعهم رفض القرار بالاقتصار على "أخذ العلم" بـ "اتفاقية كوبنهاغن" المزعومة، حاولوا أن يقترحوا إجراءً يجعل بلداناً أخرى أطرافاً لم يكونوا حاضرين أثناء التسوية أن يلتحقوا بها، وذلك بإعلانها الانضمام إليها، محاولين بذلك إعطاء هذا الاتفاق صفة قانونية، مما يمكنه أن يحكم مسبقاً على نتائج المفاوضات التي يجب مواصلتها".

هذه المحاولة المتأخرة وجدت من جديدة معارضة كل من كوبا وفنزويلا وبوليفيا، التي نبّهت مجتمعة بأن هذه الوثيقة التي لم يتبنّاها المؤتمر ليس لها أي طابع قانوني، وأنه لا وجود لها كوثيقة للأطراف ولا يمكن اتخاذ أي آلية من أجل تبنيها المزعوم....

بهذا الوضع انتهت جلسات كوبنهاغن، من دون اعتماد الوثيقة التي تم اعدادها من خلف الكواليس خلال الأيام الأخيرة، بتوجيه أيديولوجي واضح من جانب الإدارة الأمريكية...".

غداً سيتركّز الاهتمام على الجمعية الوطنية.

لازو وبرونو وباقي أعضاء الوفد سيصلون عند منتصف هذه الليلة. سيكون بوسع وزير العلاقات الخارجية الكوبي أن يشرح يوم الاثنين حقيقة ما حدث في القمة بكل ما يلزم من التفاصيل والدقة.

فيدل كاسترو روز

19 كانون الأول/ديسمبر 2009

الساعة: 8:17 مساءً