تأملات الرفيق فيدل

ما لا يمكن نسيانه أبداً

اجتمعتُ في الساعة التاسعة من صباح الحادي والعشرين من أيلول/سبتمبر الجاري بأكثر من 600 مسافر ضمن الرحلة البحرية من أجل السلام "Peace Boat"، وجميعهم تقريباً يابانيون، ومن بينهم ناجية من عملية القتل الجماعي في مدينة هيروشيما،  كانت في الثانية من عمرها عندما وقع ذلك الحدث.

التلفزيون الوطني الكوبي نقل وقائع اللقاء، لكن الترجمة في قاعة قصر المؤتمرات لم تكن ترجمة فورية وكانت أصوات الرفيقات اللواتي قمن بهذه المهمة الصعبة تطغى على كلماتي. ولذلك، فقد قررت أن أكتب تأملاً حول هذا الموضوع.

استغلّيت الفرصة لكي أوجز ما قلته وأنظّم بشكل أفضل الأفكار التي نقلتها بوفاء مطلَق لمضمون ما قيل.

ما قاله باقي الأشخاص المشاركين سأنقله كاملاً.

بالرغم مما بذلته من جهد جاء التأمل طويلاً، إذ أن اللقاء استغرق ساعتين ونصف الساعة، ولهذا فقد قررت أن أقسمه إلى ثلاثة أجزاء، سيتم نشرها على مدى ثلاثة أيام متتالية.

بدأ اللقاء بكلمة ألقتها رئيسة المعهد الكوبي للصداقة مع الشعوب، كينيا سيرّانو:

صباح الخير:

في الثالث من أيلول/سبتمبر الجاري بعث مدير المنظمة غير حكومية "رحلات بحرية من أجل السلام"، السيد يوشيوكا تاتسويا، لقائدنا العام برسالة يطلب منه فيها استقبال المسؤولين ضمن الرحلة والناجية من هيروشيما وناغازاكي الآتية على متنها؛ القائد العام وافق على الطلب، كما دعا بسرور وفداً واسعاً من المسافرين للمشاركة في اللقاء.

إننا نشارك في هذا اللقاء اليوم، الموافق الحادي والعشرين من أيلول/سبتمبر، الذي أعلنته منظمة الأمم المتحدة يوماً عالمياً من أجل السلام، وطبعاً، وفي ما سيشكل ذكرى خالدة بالنسبة لنا، بحضور قائدنا العام العزيز فيدل كاسترو روز (تصفيق).

يتواجد ضمن طاولة رئاسة لقائنا السيد ناو إينوي، مدير هذه الرحلة البحرية من أجل السلام (تصفيق)؛ السيدة ماتسومي ماتسومورا، وهي أيضاً من طاقم "الرحلة البحرية من أجل السلام"، والتي ستساعدنا في ترجمة هذا اللقاء إلى الإسبانية (تصفيق)؛ والسيدة جونكو واتانابي، عضو حركة "هيباكوشا"، وهي ناجية من هيروشيما وناغازاكي؛ والبروفيسورة سوسانا غارسيّا، من جامعة هافانا، والتي تساعد أيضاً في نقل هذا الحوار إلى اليابانية، كما تلاحظون (تصفيق).

أيها القائد...

القائد العام: ماذا عليّ أنا، أن ألقي خطاباًُ؟

كينيا سيرّانو: أن تتوجهوا بالتحيّة، فجميعنا توّاقون لذلك؟

القائد العام: لا، لقد أتيت أنا للرد على الأسئلة، هذه هي الحقيقة. سألتُ ما الذي عليّ أن أفعله ولم يرد عليّ أحد بشيء.

الواقع أنني أودّ أولاً أن أشكركم على ما يعنيه هذا من شرف بالنسبة لي.

لقد كنت غائباً بعض الشيء، كما تعرفون، كنت أقرأ الصحف؛ ولكنني ضيّعت الكثير من لقاءاتكم، لأنني عرفت بعد ذلك كل القصة بالتفصيل. لقد تعلمت الكثير منكم: المرّات التي تواجدتم فيها في كوبا، حيث بدأتم عام 1990، وعدتم في الأعوام 1995 و1997 و1998؛ وفي الأعوام 2000 و20001 و2002 مرتين؛ ثم في الأعوام 2005 و2007 و2009، واليوم، في ما بلغ حسبما علمي 14 رحلة.

حسناً، المسألة أنه حين تلقيتُ الدعوة، أسعدني أن أتمكّن من التحدث إليكم نظراً لأهمية اللحظة التي نعيشها، فهي ليست كأي لحظة أخرى؛ وبالإضافة لذلك، انطلاقاً من شعور بالامتنان، إذ أنني أعرف تضامنكم على مدار كل هذه السنوات والصعوبات والتحركات النضالية ضد أنواع الحصار وعَلَم وجنسية السفينة نفسها، والمرافئ التي تستطيعون أو لا تستطيعون الرسّو فيها، وإن كان يتم تزويدكم بالوقود أم لا، وغيرها من الحماقات المشابهة المرتكبة من قبل خصمنا الرئيسي، الذي لن يكون بالوسع أبداً عبر أساليبه الوصول إلى عالم تفاهم وسلام على وجه كوكبنا الأرضي.

استذكاراً منّي لشعاركم، ذي القيمة الخاصة جداً بنظري: "تعلّم من حروب الماضي لكي تبني مستقبل سلام"، وهي بدون شك عبارة سيكون لها مغزى دائماً، ولكن مغزاها في هذه اللحظات أقوى من أي لحظة أخرى أبداً؛ أتجرأ على القول، من دون أن أخشى الوقوع في خطأ، بأن تاريخ البشرية لم يشهد لحظة بالغة الخطورة كاللحظة الراهنة. وهكذا فإن الأمر لا يتعلّق بمجرّد رحلة، يتعلّق الأمر بكفاح فعلي، جاد، ويمكن إثبات قولي هذا، آمل أن نتمكن من خلال تبادلنا من التعرف على أفكار بعضنا البعض أو على الصيغ الممكنة؛ الحلول الواقعية، وليس مجرّد التعبير عن أماني نبيلة.

برأيي أن للقاء أهمية كبيرة جداً، وذلك بالذات لما راكمتموه من خبرة حول هذا الموضوع.

حلّت في هذه الأيام ذكرى سنوية جديدة على ذلك العمل الهمجي والفريد الذي تم فيه وللمرة الأولى استخدام الأسلحة النووية وإلقائها على مدن مسالمة.

الحقيقة أن العالم بأسره استذكر كثيراً ما حدث في هيروشيما يوم السادس من آب/أغسطس 1945. أذكر أنه عندما ورد النبأ، كنت أنا قد أنهيت دراستي الثانوية، وكنتُ في زيارة صيفية لسنتياغو دي كوبا، ولم يكن عند أحد أي فكرة عن وجود سلاح من هذا النوع. أظن أنه بعد ذلك بثلاثة أيام تم إلقاء القنبلة الذرّية الثانية.

يمكنني أن أحكي المزيد عن هذا في ما بعد، عما انتابني من شعور وما كان عليه رأيي طوال حياتي بذلك العمل؛ ولكنه مجرد مثال على الأشياء التي تساعد المرء على اكتساب الوعي، لأن عرض كل ما حدث هناك والأذى البشري الذي ألحقه، رغم كل ما انقضى من وقت، عاد ليحرّك مشاعر وشجون الرأي العام العالمي. لا أظن أن شيئاً آخر أشد من هذا تعبيراً عمّا هي الحرب قد حدث.

حسناً، أظن أنني قد أخذت الكثير من الوقت لهذه الكلمات الأولى. نريد أن نسمعكم أنتم. أنا على استعداد للرد على أي سؤال ترغبون بتوجيهه لي، في أي مجال كان. ليس لديّ أسراراً من أي نوع كان، يمكن تناول أي موضوع كان.

بودّي أن أسأل مترجمتنا كيف سارت عليه أمورها. أنتِ، أنتِ (ضحك وتصفيق).

المترجمة: بشكل جيد، يبدو أنه بشكل جيد، أيها القائد العام.

القائد العام: جيد جداً.

كينيا سيرّانو: شكراً، أيها القائد العام.

سيد ناو إينوي، من فضلك.

ناو إينوي: صباح الخير! (رد الجموع: "صباح الخير!)

قبل كل شيء، بودّي أن أعبر عن امتناننا العميق لاستقبال حضرتكم لنا هذه المرة.

اسمي ناو أينوي، مدير الرحلة البحرية في جولتها السبعين. أود أن أتوجّه بكلمة وجيزة إليكم باسم جميع أعضاء "Peace Boat".

يبدو لنا بوضوح أن حضرتكم تعرفون الكثير عن منظمتنا. أسَّسنا هذه المنظمة عام 1983، منذ أكثر من 27 سنة. قمنا حتّى الآن بسبعين رحلة بحرية عالمية شارك فيها أكثر من 40 ألف ياباني.

كما تعرفون حضرتكم، قمنا حتى الآن بأربع عشرة رحلة إلى كوبا، ورحلة هذه السنة هامة جداً بالنسبة لنا، لأنها تتوافق مع الذكرى العشرين، ولهذا فإنه يكتسي أهمية كبيرة اللقاء بكم والتعرف إليكم مباشرة، أيها القائد العام.

على مدار هذه السنوات العشرين الخالية، ركّزنا كل جهدنا على أن نكون جسراً بين الشعب الكوبي والشعب الياباني، كما أننا وقفنا دائماً ضد الحصار الجائر، الجائر بالفعل.

نحن نرى أنه من الهام جداً أن نظل جسراً، ليس فقط بين الشعبين الكوبي والياباني، وإنما إدراج البلدان الأمريكية اللاتينية أيضاً. الدافع لعملنا الدؤوب في هذا المجال هو الدعوة لعالم سلام ومستدام، على رأسه كوبا، وقد شرعنا بتعميق عرى الصداقة والأخوّة مع كل من فنزويلا وإكوادور ونيكاراغوا. من بين هذه البلدان، البلد الذي زرناه في أكبر عدد من المرات هو كوبا. سوف تتاح لنا الفرصة أيضاً للتعرف إلى الرئيس النيكاراغوي، السيد دانييل أورتيغا.

بمناسبة تعميق أواصر الصداقة والأخوّة بين شعوب مجموعة "ألبا" واليابان، ها قد شرعنا بتنفيذ مشروع أُطلق عليه اسم "الرحلة البحرية الشبابية ’للألبا‘"، ندعو في إطاره شباناً من بلدان مجموعة "البا" للسفر معنا، ونجري لقاءات ومحافل ومحاضرات بحثية، وبودّنا أن نطلب من حضرتكم، أيها القائد العام، أن تدعمونا في هذا المشروع.

وكما ذكرتم حضرتكم، نحن البلد الوحيد الذي تعرّض لقنبلة نووية، فنرى أن واجبنا وكذلك مهمتنا توجيه رسائل من أجل عالم خالٍ من الأسلحة النووية، وفي سبيل القضاء على الأسلحة النووية بودّنا أيضاً أن نتعاون معكم.

أردنا أن نذكر هنا أيضاً أن اليابان، بلدنا، لديه دستوراً مسالماً، يتخلّى بموجبه عن الحروب وكذلك عن أسلحة الدمار الشامل.

كما علمنا في البلدان الأمريكية اللاتينية أن لديكم دستوراً مسالماً أيضاً، كما تمنعون وجود قواعد عسكرية أجنبية. ونحن نفكّر بأن نطرح على منظمة الأمم المتحدة، العمل على توجيه جميع بلدان العالم نحو حيازة مثل هذا الدستور المسالم الرائع.

لا نريد الحرب أبداً، ليس بمقدورنا أن نسمح باستخدام السلاح النووي أبداً. وكما يقول الناجون من هيروشيما وناغازاكي دائماً: "لا نريد تكرار هذا النوع من المأساة الهمجية". نريد أن نقيم عالماً، والمجتمع الذي يريد الناس أن يعيشوا فيه، لا يريدونه مجتمعاً فيه فقر ومثل هذه الأمور. لهذا نحن نعتبر أنه من الهام جداً أن يكون لدى جميع البلدان هذا النوع من الدستور. لقد قطعنا العهد بأن نقيم عالماً بلا فقر، بلا جوع، وإنما وافر السعادة ومستداماً.

وأخيراً، أيها القائد العام، أنا معجب جداً بحضرتكم (ضحك وتصفيق). يبدو أننا جميعاً معجبون بحضرتكم.

نحن نعلم بأن حضرتك مشغول جداً، ولكننا نريد دعوتكم للسفر معنا على متن السفينة حتى نيكاراغوا. ما هو رأيكم؟ (تصفيق) ماذا ترون؟ (تصفيق)

القائد العام: رائع! (تصفيق)

ناو إينوي: سوف أنهي كلمتي بالدعوة. شكراً جزيلاً (تصفيق)

القائد العام: لن يكون ذلك في موسم الأعاصير، أليس كذلك؟ (ضحك)

قيل لي بأنكم ستصلون يوم أمس، ولكن كان هناك بعض الأعاصير في الأطلسي. في نهاية الأمر، في أي ساعة وصلتم؟

ناو إينوي: وصلنا في الساعة الخامسة صباحاً.

القائد العام: وهل يمكن معرفة سرعة الـ "Peace Boat"؟ (ضحك)

ناو إينوي: أشبة ما تكون بسرعة دراجة سريعة تقريباً (ضحك).

القائد العام: حسناً، هذا يعتمد، فالبطلة الرياضية أظن أن سرعتها تزيد عن الستين كيلومتراً في الساعة (ضحك).

أظن أنه في هذا الزمن، يجب على "البيس بوت" أن تسير بسرعة أكبر، فلفّ العام أصبحت عجالته أكبر (تصفيق).

من واجبي أيضاً أن أتقدم منكم باعتذار. وردتنا أنباء يوم أمس بالذات صباحاً، وشرعت بالتفكير في كيفية اجتماعي إليكم، إذ قيل لي بأنكم طلبتم أن يكون الاجتماع مع بعضكم، فقلت: "حسناً، إذا كان بالوسع، سأحاول أن أحييهم جميعاً"، غير أنني لم أكن أعرف ساعة وصولكم، كما أنه كان لديكم برنامجاً يغطي اليوم كلّه. حسناً، ما العمل في سبيل عدم عرقلة نشاط الآخرين ولا أي برنامج آخر؟ وكان لهذا السبب أن جاءتنا فكرة هذا الاجتماع في ساعة مبكرة جداً. جميعنا اضطررنا للنهوض في ساعة مبكّرة جداً. أتصور أنكم كنتم...، لا أدري أين كنتم، إن كان على متن السفينة تشاهدون مدخل هافانا أو كنتم نائمين. أريدكم أن تعذروني، لأنني المسؤول عن اضطراركم لتكثيف برنامجكم (تصفيق). حينها، نظّمنا، أو على الأصح ارتجلنا، الاجتماع في هذه الساعة، لكي تتمكنوا من القيام بباقي النشاطات وعدم تخريب علاقاتي مع باقي المؤسسات التي ستعتني بكم.

أظن أنهم أعطونا ساعة ونصف الساعة. أجبتهم: على كل حال، كانوا سيصلون اليوم وسوف يصلون غداً، هناك مرونة في الأمر. أظن أن الباخرة كانت ستغادر في الساعة الخامسة من عصر هذا اليوم.

كينيا سيرّانو: الشروع بالصعود في الساعة الخامسة والمغادرة في الساعة السابعة.

القائد العام: كانت ستغادر في السابعة؟

كينيا سيرّانو: بالضبط.

القائد العام: نعم، في الخامسة كان موعد انتهاء نشاطهم.

حسناً، ما دام إعصار أرغم السفينة على التأخر، إذا غادرتم في التاسعة أو غادرتم في العاشرة، فإنكم تقضون بذلك مزيداً من الوقت في هافانا، وليس هذا بمأساة. لحسن الحظ أن الزيارة تمت بدون وجود حرب. تمت في وقت السلام.

ولهذا طلبت المعذرة منكم.

هل لديك فكرة كيف سيسير عليه؟

كينيا سيرّانو: أيها القائد العام، إنه أمر محرّك للمشاعر، كلّما تصل الرحلة البحرية –في السنة الماضية وفي هذه السنة- يكون على متنها ناجون من هيروشيما، والآن لدينا السيدة جونكو واتانابي. اقترح الاستماع إلى شهادتها.

جونكو واتانبي: قبل كل شيء، أيها القائد فيدل كاسترو، إنه شرف عظيم ومبعث سرور بالنسبة لي التعرف إليكم، وبودّي أن أعبّر لكم عن امتناني العميق لاستقبالكم لنا بكل هذا القدر من المودة.

وأود أن أعبّر أيضاً عن الامتنان على ما عند الشعب الكوبي من اهتمام ومعلومات عن هيروشيما وناغازاكي. كما أن الحركة الكوبية من أجل السلام أقامت يوم أمس لقاء شهادة لي، وكذلك احتفالاً بمناسبة يوم السلام العالمي، وأقمنا لقاءاً جميلاً جداً في دار الصداقة.

ولدتُ أنا في هيروشيما ثم تزوجت من ياباني وانتقلت للعيش في البرازيل. توجهت للبرازيل وأنا في الخامسة والعشرين من العمر، ثم عدت إلى اليابان وأنا في الثامنة والثلاثين، ولكن كان في تلك اللحظة أن علمت، للمرة الأولى، بأنني من ضمن الناجين من هيروشيما وناغازاكي.

ولدتُ في وسط هيروشيما، ولكن أثناء الحرب العالمية الثانية كانت عائلتي قد أخليت إلى خارج هيروشيما، وبما أنني كنت في الثانية من عمري، فإنني لا أذكر ما حدث؛ ولكن حين أخبرني والداي بأنني من ضمن الناجين، أصبت بصدمة قويّة.

في السادس من آب/أغسطس في الساعة 18:15 كانت أمي في المنزل مع شقيقي الأصغر. وكنت أنا وشقيقي الأكبر نلهو في باحة معبد يقع على مقربة من المنزل. آنذاك شعرت أمي بريح شديدة، مريعة، كما شاهدت أوراقاً محروقة تسقط قبالة المنزل. أُذهلت أمي، فأتت لأخذنا من المعبد، كان في تلك اللحظة أن سقط علينا المطر الأسود. كان المطر أسوداً ولزجاً.

قبل إلقاء القنبلة، في ذلك اليوم السادس من آب/أغسطس، كان الطقس جميلاً في الصباح، ويقال بأن القنبلة الذريّة انفجرت على ارتفاع 580 متراً فوق الأرض.

القائد العام: كم متراً؟

جونكو واتانبي: خمسمائة وثمانون متراً فوق الأرض.

القائد العام: كانت نووية.

جونكو واتانبي: قنبلة نووية.

القائد العام: هذه الطاقة هي من اليورانيوم، لم تكن من البلوتونيوم. قنبلة البلوتونيوم ألقيت على مدينة أخرى.

جونكو واتانبي: نعم، على ناغازاكي.

وبما أنها انفجرت على علو مرتفع، فإن أثرها كان بالغاً من خلال الأشعة الساخنة والريح الساخنة إلى أن يحترق البشر. وبعد القنبلة صعد كل الغبار والورق إلى الأعلى، ثم سقط المطر الأسود حاملاً الإشعاع.

بعد تعرضي للمطر الأسود أصبح وضعي الجسدي على الشكل التالي.

القائد العام: كيف، أعيدي؟

جونكو واتانبي: تضرر جسدي، سوف أشرح لكم الآن كيف كان عليه.

كنت أعاني يومياً الإسهال. كان بوسعي أن أتناول الطعام، ولكن فيما بعد لا يبقى أي غذاء في جسمي، كنت أتقيأ كل ما أتناوله. ظن والداي أن ابنتهما ستموت.

الحقيقة أنني كنت في الثانية ولا أتذكّر مشاهد مأساوية.

عندما بلغت الستين من العمر بدأت أشارك في جمعية برازيلية. يعيش اليوم في البرازيل 132 ناجياً من هيروشيما وناغازاكي.

القائد العام: أين، في البرازيل؟

جونكو واتانبي: في البرازيل.

القائد العام: هل ذهبوا إلى هناك وهم أطفال؟

جونكو واتانبي: بأعمار مختلفة.

القائد العام: هل ذهب آباؤهم معهم أم لا؟

جونكو واتانبي: معظمهم تزوجوا وذهبوا بدون آبائهم، أي وهم كبار.

متوسط أعمار الناجين يبلغ الآن 75 سنة، أصبحوا على عتبة الشيخوخة. ولهذا فقد طلب مني رئيس الجمعية البرازيلية أن أساعد الجمعية، باعتبار أني ناجية شابة.

مع أنني ناجية، وبما أنني لا أتذكر ما حدث، لم أكن أعرف شيئاً عن القنبلة الذريّة قبل أن أشارك في هذه الجمعية.

بعدها أتيحت لي الفرصة لقراءة كل الوثائق التي أعدها مائتا ناجٍ من هيروشيما وناغازاكي يعيشون في البرازيل وكتبوا فيها حقيقة ما حدث في هيروشيما وناغازاكي. كانت تلك أول لحظة أعرف فيها شيئاً عن القنبلة الذريّة في هيروشيما. قاموا هم بوصف المشهد بالغ الهمجية.

نظراً لما ألمّ بي من حزن وحقد، شعرت بأسى شديد وبأنني أرتجف.

كما عثرت على فيلم وثائقي صوّره صحافي ياباني. ولكن بعد القنبلة الذريّة قام الأكاديميّون الأمريكيون بسرقة تلك المعلومات وأخذوها إلى بلدهم، وبعد ذلك لم يعرضوا علينا أبداً شريط الفيديو الذي وجدته في المكتب.

كانت مشاهدته صعبة بعض الشيء، لأنه شريط قديم. حينذاك طلبتُ من صديق لي أن يحوله إلى قرص مدمج "دي في دي".

نحن شاهدنا الفيلم مع عشرة أصدقاء من الناجين.

المشاهد التي احتواها هذا الفيلم بالغة الهمجية، وقد شاهدته بحزن شديد، وكانت مدينة هيروشيما آخذة بالاندثار.

لقد شاهدت ذلك في الفيلم الوثائقي، شاهدناه، وتظهر فيه المباني محروقة تماماً، والمدينة سوداء بالكامل. ويظهر فيه أيضاً الناس الذين كانوا يسيرون على غير هدى، وجلدهم يتدلّى من أذرعهم، لأن حالها متردّي، وعيونهم خارجة من مكانها. يظهر فيه الناس يسيرون، ولكن من غير وعي.

حين رأيت ذلك في الفيلم الوثائقي، مع أنني لم أكن أذكر المشهد، أدركت بأنني كنت هناك في تلك اللحظة، وسلّمت بأن ذلك هو من فعل البشر، فشعرت حينها بحقد غائر وحزن شديد.

وهكذا بدأت أفكر: علينا نحن أن ننقل تلك الشهادات إلى الأجيال الجديدة، وقبل سنتين، عام 2008، شاركت في "مشروع هيباكوشا" الذي قامت به منظمة "بيس بوت"، ودُعي إليه مائة من الناجين، نقلنا شهاداتنا عبره في كل مرفأ رسونا فيه، كما تعرفت إلى "هيباكوشا" آخرين في العالم.

في فيتنام تعرّفنا على ضحايا العنصر البرتقالي، الذين أنتجتهم حرب فيتنام، وما عانوه هم وآباؤهم. الأثر الذي أصيبوا به هم ينتقل من جيل إلى جيل.

شقيقي الأكبر الذي كنت ألهو معه في المعبد توفي قبل سنتين عن عمر 67 سنة.

بعدما سقط عليه المطر الأسود، كما سقط عليّ أنا، عانى على الدوام من هشاشة في العِظام وعاش ضعيفاً جداً. توفي عن 67 سنة بسبب إصابته بالسرطان في الكبد.

مع مشاهدتي للناجين وهم يموتون، أعيش اليوم في حالة من القلق الشديد على وضعي الصحي.

بودّي أن أعرض أيضاً قصة من الأوريغامي، وهي عبارة عن مطويّات ورقية وترمز للسلام بالنسبة لنا، والآن على المستوى العالمي أيضاً، مشفوعة دائماً بقصة طفلة اسمها ساداكو ساساكي توفيت وهي في الثانية عشرة من عمرها بسبب إصابتها بسرطان في الدم.

هذه السنة، حين شاركت في مؤتمر منع انتشار الأسلحة النووية في نيويورك، في شهر أيار/مايو، أتيحت لي الفرصة للتعرف إلى شقيق ساداكو ساساكي.

دعوني أشرح قليلاً قصة ساداكو ساساكي. لقد سقط عليها المطر الأسود، كما هو حالي أنا، ونمت بصحة سليمة حتى بلغت العاشرة. بعد ذلك، على أثر اعتلالها، أُنزلت في المستشفى ومكثت فيه.

كان لديها اعتقاد بأنه إذا صنعت ألف مطويّة من الورق سوف تتحسن، وحسب القصة التي يرويها شقيقها، فقد واصلت طيّ الأوراق إلى أن... حسناً، في تلك الفترة لم يكن لدينا ورق، فاستخدمت الأوراق التي تغلّف بها الأدوية كما كانت تطوي الأوراق بالإبر. وكانت تقول دائماً، حتى اقتراب لحظة وفاتها: "أريد أن أعيش أكثر، أريد أن أعيش أكثر".

نحن الآن في ذات وضع ساداكو ساساكي، نحن الذين سقط علينا المطر الأسود؛ هي ماتت وأنا ما أزال باقية. ولهذا أشعر بمسؤولية كبيرة للتعريف بالقنبلة الذريّة، والتعريف بالناجين. على الناجين أن يعيشوا وتعيش معهم مشكلات بدنية وكذلك ذهنية كبيرة، وبمباعث قلق كثيرة إلى أن يموتوا، وهذا علينا أن ننقله إلى الأجيال الأخرى.

الآن نتعلّم نحن على المستوى العالمي بأنه يوجد في العالم أنواع عديدة من الـ "هيباكوشا"، في أماكن مختلفة، على سبيل المثال السكان الأصليون عندما يستخرجون اليورانيوم من المناجم يتضررون جداً من الإشعاع، وكذلك الناس الذين يعيشون على مقربة من المفاعل النووية، وهذه الأمور علينا أن نتعلّمها، وأن نعلّمها للناس أيضاً.

عندما شاركت في مشروع "هيباكوشا" قبل سنتين، كان هناك فتى ياباني، مخرج الفيلم الوثائقي، الذي غطّى حضوري على متن السفينة، كما أجرى مقابلة لاحقاً مع والدي وهو في الثامنة والتسعين. ما قاله والدي هو ما لم أكن أعرفه أنا حتى تلك اللحظة. هذا ما قاله والدي. سأله المخرج: "لماذا لم تخبر جونكو بالحقيقة؟"

منذ أن ألقيت القنبلة وحتى الآن، الفتيات اللواتي تأثّرت من القنبلة الذريّة، مع أنهن ناجيات، عانين التمييز وواجهن صعوبات في الزواج. علمنا آنذاك بأنني، أنا الناجية، لم أصَب ولحسن الحظ بأي مشكلة جسدية، ولكن أطباء كثيرون يقولون بأن أثر الإشعاع يظهر أيضاً في جيل آخر.

يُتبع غداً...

 

فيدل كاسترو روز

24 أيلول/سبتمبر  2010

الساعة: 3:38 عصراً